- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
التاريخ الأندلسي8
الإثنين نوفمبر 21, 2011 8:56 pm
حين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بما يأتي:
أولاً: إنشاء جيش قوي
وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة
أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.
3- إنشاء أسطول بحري قوي
أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.
4- تقسيم ميزانية الدولة
كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.
ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ
أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
- نَشْر العلم وتوقير العلماء.
- اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
- اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].
وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].
وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].
ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي
ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
- اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
- إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].
رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء
بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:
- الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
- الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
- الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
[2] المقري: نفح الطيب، 3/36.
[3] المصدر السابق، 3/36.
[4] المصدر السابق، 3/49.
[5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/229، والمقري: نفح الطيب، 1/545.
[6] أبو الحسن النبهاني: تاريخ قضاة الأندلس، 1/43.
[7] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/191.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/280، والمقري: نفح الطيب، 1/467
عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ
لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.
مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
«كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].
شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.
ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].
إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.
وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.
عبد الرحمن الداخل.. الإنسان
مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.
وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.
قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي
فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ
عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ
مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي
بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]
ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي
أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ
وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا
فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]
عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري
تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.
ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة
فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.
ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.
ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف
وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.
حياة صقر قريش في سطور
لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.
وفاته
عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].
[1] المقري: نفح الطيب، 3/37.
[2] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/37.
[3] المصدر السابق، 3/39.
[4] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/41، 42.
[5] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/37.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، 242، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/36.
[7] المقري: نفح الطيب، 3/33.
[8] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/58، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
الإمارة الأموية
جامع قرطبةظلَّ عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (172هـ=788م) أي قُرابَةَ أربعةٍ وثلاثين عامًا -كما ذكرنا- وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية، والتي استمرَّت من سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (316 هـ=928م).
وحتى نستطيع أن نفهم عهد الإمارة الأموية يمكنُنا تقسيمه إلى فتراتٍ ثلاثٍ كما يلي:
الفترة الأولى: فترة القوة
واستمرَّت مائة عام كاملة (138-238هـ= 755-852م)، وتُعتَبَر هذه الفترة هي فترة القوَّة والمجد والحضارة، وكانت فيها الهيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق.
الفترة الثانية: فترة الضعف
وتُعَدُّ فترة ضعف، وقد استمرَّت اثنين وستين عامًا (238-300هـ=852-913م).
الفترة الثالثة: فترة الانتقال للخلافة الأموية
وهي ما بعد سنة (300هـ=913م)، وحتى (316 هـ)، وهي فترة التأسيس والانتقال لعصر الخلافة الأموية.
الفترة الأولى: فترة القوة
تُمَثِّل هذه الفترة عهد القوَّة في فترة الإمارة الأموية؛ كانت البداية فيها لعبد الرحمن الداخل -رحمه الله- ثم خَلَفَه من بعده ثلاثة من الأمراء، كان أوَّلهم هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقد حكم من سنة (172هـ=788م) حتى سنة (180هـ=796م) [1].
[1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/334.
أولاً: إنشاء جيش قوي
وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة
أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.
3- إنشاء أسطول بحري قوي
أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.
4- تقسيم ميزانية الدولة
كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.
ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ
أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
- نَشْر العلم وتوقير العلماء.
- اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
- اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].
وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].
وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].
ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي
ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
- اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
- إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].
رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء
بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:
- الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
- الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
- الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
[2] المقري: نفح الطيب، 3/36.
[3] المصدر السابق، 3/36.
[4] المصدر السابق، 3/49.
[5] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/229، والمقري: نفح الطيب، 1/545.
[6] أبو الحسن النبهاني: تاريخ قضاة الأندلس، 1/43.
[7] أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء بالأندلس، 1/191.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/280، والمقري: نفح الطيب، 1/467
عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ
لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.
مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
«كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].
شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.
ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].
إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.
وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.
عبد الرحمن الداخل.. الإنسان
مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.
وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.
قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي
فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ
عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ
مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي
بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]
ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي
أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ
وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا
فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]
عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري
تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.
ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة
فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.
ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.
ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف
وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.
حياة صقر قريش في سطور
لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.
وفاته
عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].
[1] المقري: نفح الطيب، 3/37.
[2] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/37.
[3] المصدر السابق، 3/39.
[4] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/41، 42.
[5] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/37.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/241، 242، وانظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، 1/36.
[7] المقري: نفح الطيب، 3/33.
[8] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص105، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/58، والمقري: نفح الطيب، 3/48.
الإمارة الأموية
جامع قرطبةظلَّ عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (172هـ=788م) أي قُرابَةَ أربعةٍ وثلاثين عامًا -كما ذكرنا- وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية، والتي استمرَّت من سنة (138هـ=755م) وحتى سنة (316 هـ=928م).
وحتى نستطيع أن نفهم عهد الإمارة الأموية يمكنُنا تقسيمه إلى فتراتٍ ثلاثٍ كما يلي:
الفترة الأولى: فترة القوة
واستمرَّت مائة عام كاملة (138-238هـ= 755-852م)، وتُعتَبَر هذه الفترة هي فترة القوَّة والمجد والحضارة، وكانت فيها الهيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق.
الفترة الثانية: فترة الضعف
وتُعَدُّ فترة ضعف، وقد استمرَّت اثنين وستين عامًا (238-300هـ=852-913م).
الفترة الثالثة: فترة الانتقال للخلافة الأموية
وهي ما بعد سنة (300هـ=913م)، وحتى (316 هـ)، وهي فترة التأسيس والانتقال لعصر الخلافة الأموية.
الفترة الأولى: فترة القوة
تُمَثِّل هذه الفترة عهد القوَّة في فترة الإمارة الأموية؛ كانت البداية فيها لعبد الرحمن الداخل -رحمه الله- ثم خَلَفَه من بعده ثلاثة من الأمراء، كان أوَّلهم هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقد حكم من سنة (172هـ=788م) حتى سنة (180هـ=796م) [1].
[1] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/334.
- angelالمدير العام
- عدد المساهمات : 8871
نقاط : 14094
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 27/10/2011
الموقع : عمان
المزاج : إذا ضبطت نفسك متلبساً بالغيرة "على " إنسان ما فتفقد أحاسيسك جيداً فقد تكون في حالة " حب " وأنت "لا تعلم"..
رد: التاريخ الأندلسي8
الإثنين ديسمبر 19, 2011 10:37 pm
التاريخ الأندلسي8
- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
رد: التاريخ الأندلسي8
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 3:12 am
ان شاء الله يستفيد الجميع
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى