- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
التاريخ الأندلسي6
الإثنين نوفمبر 21, 2011 8:42 pm
ولاية عبد الرحمن الغافقي (112هـ=730م)
بعد استشهاد عَنْبَسَة بن سُحَيْم -رحمه الله- بدأت الأمور في التغيُّر؛ فقد تولَّى حكم الأندلس مِن بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، فعلى مدى خمس سنوات فقط (107-112هـ=725-730م) تولَّى إمارة الأندلس ستة ولاة، كان آخرهم رجل يُدعى الهيثم بن عبيد الكلابي –أو الكناني حسب بعض الروايات- وكان عربيًّا متعصبًا لقومه وقبيلته[1].
ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين: المسلمون العرب من جهة والمسلمون الأمازيغ (البربر) من جهة أخرى، وكانت خلافات بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح الله على المسلمين هذه المناطق وحتى هذه اللحظة، ولم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معاركُ ومشاحناتٌ بين المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ (البربر)[2]، حتى مَنَّ الله على المسلمين بمَنْ قضى عليها ووحَّد الصفوف من جديد، وبدأ يبثُّ في الناس رُوح الإسلام الأولى، التي جمعت بين الأمازيغ (البربر) وبين العرب، والتي لم تُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغَافِقِيُّ -رحمه الله.
عبد الرحمن الغافقي
مَنْ يكون عبد الرحمن الغافقي؟
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ (ت 114هـ=732م)، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويُكنى أبا سعيد, وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين –رحمه الله[3].
مولده
ربما يكون وُلِدَ في اليمن ورحل إلى إفريقية، وَفَدَ على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ووليَ قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس[4].
فكره العسكري
تميَّز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد؛ حتى لا تتشتَّت الأمور ويبعد الهدف في ظلِّ التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته.
كما تميَّز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن، بين ما يملك من قوى وما يُريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي؛ أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادًا قويًّا من كافَّة النواحي، والتأكُّد من توافر كل أنواع القوة؛ بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوَّة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءً بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى؛ فإن أي قصور في أي نوع منها كفيلٌ بجلب الهزيمة على الجيش كله.
خلُقه
وكان t، من أحسن الناس خُلُقًا[5]، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد الصحابة –رضي الله عنهم؛ فلا عجب إذا رأينا منه حُسْنَ السيرة في أخلاقه مع رعيته، ولا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل؛ فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس؛ فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله .
قال عنه الذهبي –رحمه الله: عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيّ أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر، وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض[6]، وذكره ابن بشكوال فيمن دخل الأندلس من التابعين[7].
وذكر الحميدي أنه روى الحديث عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان صالحًا جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عَدْلَ القسمة في الغنائم[8].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص31، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، وفيه أن محمد بن عبد الله الأشجعي ولي بعده شهرين، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/18.
[2] انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص86، 87.
[3] الحافظ أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/298، والزركلي: الأعلام 3/212.
[4] الزركلي: الأعلام 3/212.
[5] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275، والمقري: نفح الطيب 3/15.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام 7/414.
[7] المقري: نفح الطيب 3/15.
[8] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275.
فتوحات عبد الرحمن الغافقي
بعد أن وحَّد عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- المسلمين، وتيقَّن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجَّه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل[1]، ثم مدينة بودرو[2] Bordeaux ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة بواتييه[3] Poitiers، ثم وصل إلى تور[4] Tours، وهي المدينة التي تسبق باريس والمسافة الفاصلة بينهما حوالي 295كم، والمسافة بينها وبين قُرْطُبَة حوالي ألف كيلو متر؛ أي أنه توغَّل كثيرًا جدًّا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال[5].
وعلى بعد بحوالي 25 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة بواتييه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تُسَمَّى البلاط[6]، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعَدُّ حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا[7].
وقفة في تاريخ ومصادر معركة بلاط الشهداء
لموقعة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع؛ ذلك أن المصادر الإسلامية تصمت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المعركة ما زال مفقودًا في بطون المخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور؛ فالمسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزوة أُحُد وحُنَين، وحتى سقوط غَرْنَاطة، أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً.
فإن لم يكن ما كُتب عن المعركة مفقودًا، وكان المسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع المؤرخ المحقق الدكتور حسين مؤنس الذي أدهشه قلة التفاصيل، واجتهد في معرفة السبب فلم يجد إلاَّ أن قال: «الواقع أن المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114 و115 هـ»[8].
وحين خلت تفاصيل المعركة من الرواية الإسلامية لم يبقَ في المتاح إلاَّ الرواية الأوربية المسيحية عنها، وهي روايات حافلة بكثير من التفاصيل، وبكثير من الأساطير كذلك.. ولقد تشبعت الروايات الأوربية بالمبالغات في وصف المعركة ووصف النصر العظيم للفرنجة، والهزيمة الساحقة الماحقة للمسلمين، مبالغة مَنْ رأى فيها إنقاذ المسيحية من الفناء على يد الإسلام الزاحف بسرعة مدهشة، والذي لم يقف أمامه حتى الآن شيء، فإذ به ينتقل من الشرق إلى الغرب، ومن جنوب المتوسط إلى شماله، ويكاد يجعل بحر المتوسط بحيرة تامَّة لمملكته الناهضة.
إذًا فكلُّ ما نعرفه عن تفاصيل بلاط الشهداء مأخوذ من الرواية الأوربية لا غير، وخلاصة ما تُقَدِّمه الرواية الغربية نميل إلى تصديقه بعد استخلاصه من المبالغات، وإن كان لا يسلم من مؤاخذات واعتراضات كذلك، وسنعرض لها بعد توقُّفنا أمام المعركة.
الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة
رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- تلك إلاَّ أنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه؛ ومن ثَمَّ فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها.
ثم عندما وصل عبد الرحمن الغَافِقِيُّ –رحمه الله- بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجدَّدت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ يقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم. ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد. ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك.
يمكننا أن نضيف -أيضًا- ما قد يكون من زهو واغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي، ولم تقف لهم قوَّة ذات بال.
معركة بلاط الشهداء
معركة بلاط الشهداءالتقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع شارل مارتل تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.
حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.
بالغت الروايات الأوربية كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شَكٍّ رقم مبالغ فيه جدًّا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يَتَعَدَّ خمسين ألفًا، أو ثمانين في أقصى التقديرات.
بعد انقضاء اليوم العاشر انسحب المسلمون إلى الجنوب، وجاء اليوم الحادي عشر فنهض الفرنجة لمواصلة القتال، فلم يجدوا من المسلمين أحدًا، فتقدَّمُوا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية، وقد فاضت بالغنائم والأسلاب والخيرات، فظنُّوا الأمر خدعة، وتريَّثُوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا ما فيه، ولم يُفَكِّر أحد منهم في تتبُّع المسلمين؛ إما لأنهم خافوا أن يكون العرب قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركًا، أو ربما لأن شارل مارتل اطمأن أنه يستطيع العودة إلى بلاده في الشمال مطمئنًّا إلى انصراف المسلمين عنها[9].
قصة الغنائم
رأي الدكتور عبد الرحمن الحجي
يرفض الدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه «التاريخ الأندلسي» قصة الغنائم هذه، ويسوق في الردِّ عليها جملة من الأمور هي: عدم ثبوت شيء متعلق بأن ثمة نزاعًا كان بين العرب والبربر لا من قبل المعركة ولا في الوقت الذي تلاها، كذلك ما يبدو في قصة الغنيمة من أسطورية تجانب ما عُرف عن الأهداف العليا للفتح الإسلامي، ولما عُرف عن الفاتحين في فرنسا من الزهد في مثل هذه الأمور، كما أنه من الغريب أن يحمل الفاتحون غنائمهم وهم متوجهون إلى معركة يعرفون أنها حاسمة، ولو قُدِّر أن اجتمع لهم مثل هذا القدر الضخم من الغنائم -كما تصف الرواية الأوربية- لكانوا أودعوها مدنًا مفتوحة وما حملوها معهم؛ لا سيما وقد أظهرت لنا طبيعة الفتوح في الأندلس اهتمام المسلمين بالخيل والسلاح تحديدًا لا بغير ذلك من الغنائم، كذلك تتناقض الرواية الأوربية حين تقول بأن الفرنج لم يكتشفوا حيلة المسلمين وانسحابهم إلاَّ في صبيحة اليوم التالي، وقد كانوا يتجهزون لقتال، ما يعني أنه لم تكن تبدو بوادر انتصار لهم ولا هزيمة للمسلمين، فضلاً عن أن تكون هزيمة ساحقة كما تمَّ تصويرها، بل الأرجح في هذه الحالة أن المسلمين انسحبوا بشكل تكتيكي طبيعي لَمَّا استشهد الغافقي، وهو قرار عسكري يُؤخذ بلا حرج حين تبدو صعوبة المعركة، ولا يعني في حدِّ ذاته هزيمة فادحة[10].
إلاَّ أننا لا نميل كل الميل إلى كلام الدكتور الحجي، وإن كان طرح بعض ما يحتاج إلى دراسة متخصصة، ذلك أن الفاتحين من البشر ويجوز أن يحرصوا على الغنائم وأن يُفتنوا بها، وليسوا –على عظمتهم- بأكرم من الصحابة –رضي الله عنهم- الذين فُتنوا بها في غزوة أُحُد، كما أن الهزيمة في بلاط الشهداء إذا لم تكن كبيرة لكُنَّا سمعنا بعودة أخرى للمسلمين إلى تلك المناطق، إلاَّ أن ذلك لم يحدث؛ وهذا ما يعطينا الإيحاء القوي -الذي يفتقر للدليل الأكيد- بأنها كانت حقًّا هزيمة مؤثِّرة، وبها توقَّفت الفتوحات في شمال فرنسا، كذلك لا يُفَسِّر الدكتور الحجي طبيعة الصعوبات التي تدفع المسلمين لانسحاب ليس بعده رجعة، وقد عهدناهم في كل مراحل التاريخ -وفي فتح الأندلس نفسها- يُقاتلون في عدد وعدَّة أقل كثيرًا من عدوهم، وفي أرض لا يعرفونها كما يعرفها أصحابها.
رأي الدكتور عبد الحليم عويس
وأمَّا الدكتور عبد الحليم عويس فيبدو أنه ممن يميل إلى تفسير الغنائم كسبب للهزيمة؛ يقول: «قصة الغنيمة في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تُلقيه علينا -كذلك- أغرب! لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين -عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة- كذلك! فقصة الغنيمة.. هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول .. وخالف الرماةُ أمرَه، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة.. فكانت أُحُد، وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خِيرَة المسلمين.. بسبب الغنيمة.. نعم بسبب الغنيمة!
معركة بلاط الشهداءوكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي.. سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة.. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق.. وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة.. أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصير، لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك- السَّمْح جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»[11].
وعلى كل حال، فما زال الباحثون في انتظار الجديد الذي تجود به الأيام من نفائس المخطوطات، مما عسى أن يساعدنا في فهم هذه المعركة التي بها توقفت فتوحنا في أوربا.
النصر الكارثي
ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس: "إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية[12]".
بين التاريخ والواقع
يقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري t أن رسول الله قال: «فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[13]. فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ، حتى مرَّت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960م، فلمَّا قامت الحركات الاستقلاليَّة منذ سنة 1920م وما بعدها، فكَّرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلاَّ إشاعة الفتنة بين العرب والأمازيغ (البربر)، وضَرْب بعضهم ببعض، فكانت تُشِيعُ بين الأمازيغ البربر أنهم قريبون من العنصر الآري وهو العنصر الأوربي، وبعيدون عن العنصر السامي وهم العرب؛ أي: أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء. وذلك للتشابه الكبير بين الأمازيغ (البربر) والأوربيين في المظهر، وهذا ما لا يعترف به الإسلام ولا يُقِرُّه على الإطلاق، فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق الأمازيغ (البربر)، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتمَّ فصل الأمازيغ (البربر) عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء، إلاَّ أنها لم تُفلح على الإطلاق في تحويل الأمازيغ البربر من الإسلام إلى النصرانية، فظلَّ الأمازيغ (البربر) على إسلامهم، وإن كانت لغتهم قد تغيَّرت.
وكانت قبائل الأمازيغ (البربر) تمثِّل 15٪ من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية، إلاَّ أنهم كانوا يتمسَّكون بالعربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن حين قامت فرنسا بنفخ نار العصبية، بدأت تُذْكي الروح الأمازيغية (البربريَّة) في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تُعَلِّم اللغة الأمازيغية؛ حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديميةً خاصةً لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية؛ رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، وقامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة، وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة الأمازيغية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من الأمازيغ (البربر) لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا؛ حتى إنها في عام 1998م أنشأت ما يُسَمَّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تُجَمِّع الأمازيغ (البربر) من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتُعَلِّمهم اللغة الخاصة بهم؛ وكل ذلك لفصل الأمازيغ (البربر) عن العرب، تلك الجموع التي ما هي إلاَّ جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في بلاط الشهداء وما تلاها فلم تتوانَ، وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد مسلم عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تَقَدَّم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردَّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تُريد بلقنة فرنسا. أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، فهذا الأمر -في رأيهم- حلال على الجزائر حرام على فرنسا[14]!
[1] آرل: هي مدينة في جنوب فرنسا، تقع في مقاطعة بوشيه دو رون، بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
[2] بوردو (بالفرنسية: Bordeaux): هي مدينة فرنسية. تقع في جنوب غرب فرنسا.
[3] بواتييه: مدينة فرنسية على بعد 332 كم إلى الجنوب الغربي من باريس.
[4] تور: مدينة فرنسية تقع على نهر اللوار في وسط غرب فرنسا.
[5] انظر تفصيل زحف عبد الرحمن الغافقي في بلاد فرنسا: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 87-91، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص193-203، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص221-227.
[6] البلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر.
[7] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص227.
[8] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص228.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص229.
[10] انظر التفصيل: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص197 وما بعدها.
[11] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية ص7، 8.
[12] انظر: شوقي أبو خليل: بلاط الشهداء ص 44، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص199-203.
[13] البخاري: كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961.
[14] فهمي هويدي: مقال: «درس فتنة الأمازيغ»، صحيفة الأهرام 3/7/2001م.
وقفات
معركة بلاط الشهداءبعد استشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه، وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون، وتوقَّفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض النقاط المهمَّة، والتي نَوَدُّ الوقوف أمامها قليلاً.
أولها: لماذا لم يقمْ أهل الأندلس بالثورات رغم ضآلة الحاميات الإسلامية في الأندلس؟
كان قِوَامُ الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس ثلاثين ألفَ مقاتلٍ، كان مع طارق بن زياد منهم اثنا عشر ألفًا[1]، وقد استُشهِد منهم في وادي بَرْبَاط ثلاثةُ آلافٍ، واستشهد مثلُهم في الطريق من وادي بَرْبَاط إلى طُلَيْطِلَة، فوصل طارق بن زياد إلى طُلَيْطِلَة بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا[2]، فأصبح قِوَام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل، تمَّ توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض مناطق جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تُفْتَح.
فلماذا لم يقم أهل هذه البلاد -على سَعَتِها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة فيها؛ رغم قِلَّتها الملحوظة التي لا تُقارَن بعدد السكان على الإطلاق؟!
ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب! فالسؤال الذي كان متوقعًا هو: لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا؛ تُنهب أموالهم وتُنتهك أعراضهم فلا يعترضون؛ حُكَّامهم في الثروات والقصور يتنعَّمُون، وهم لا يجدون ما يسدُّ الرمق، يزرعون الأرض وغيرُهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترَوْن مع تلك الأرض التي يزرعونها.
فلماذا إذًا يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لُذريق جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!
ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرَّم كل ما سبق، وجاء ليقول لهم: تعالَوْا أُعْطِكم بدلاً من الظلم عدلاً؛ ليس هبةً مني، لكنه حقٌّ لكم ولقومكم وأولادكم وذريتكم من بعدكم. إنه الإسلام الذي لم يُفَرِّق بين حاكم ومحكوم، فإن حدث لأيٍّ منكم مظلمة قام القاضي لا يُفَرِّق بين المسلم واليهودي والنصراني، أيًّا كان شكله أو لونه أو جنسه.
إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم؛ إنما بقدر أعمالهم، والأعمال متاحة للجميع الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول فيه الحاكم لك: إِنْ كنتَ من المسلمين وكنت غنيًّا فلن تدفع إلاَّ 2.5٪ زكاةً لأموالك، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحَوْلُ، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئًا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.
وإن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًّا وقادرًا على القتال -وليس غيرَ ذلك- فستدفع جزيةً؛ هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يُدَافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فستُرَدُّ إليك أموالك.
إنه الإسلام خلاص الشعوب؛ وحين عرفه أهل الأندلس تمسَّكوا به، واعتنقوه اعتناقًا، ولم يرضَوْا عنه بديلاً؛ فكيف يحاربونه ويُضَحُّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذلِّ والحرمان؟!
ثانيًا: ولكن البعض سيقول: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين؟! ألم يكن هناك ولو رجل واحد يُريد أن يثور ويعترض حبًّا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضُيِّعَتْ عليه؟!
نقول: بلى؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح، الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويُحَقِّقوا مصالح كانت لهم، أمَّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده في قوله: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
فلقد كانت للمؤمن زمنَ الفتوحات رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامَّة، فالله يُلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً؛ فيخافه القريب والبعيد، يقول : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[3]. ويقول : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].
ولم يكن هذا الرعب بسبب بشاعة في الحرب، أو إجرام منقطع النظير، إنما كان هبة ربانية لجند الله ولأوليائه، فلم تكن حرب الإسلام إلاَّ رحمةً للناس كل الناس؛ فها هو ذا كما جاء في الحديث الشريف عن بُريدة t حين كان يُوَدِّع الجيوش فكان يخاطبهم؛ قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»[4].
وفي رواية: «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً»[5].
فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا مِن قَتْلِ مائتي ألف مسلمٍ من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟! أين هذا من فِعْل الروس في الشيشان، وفِعْل الهنود في كشمير، وفِعْل اليهود في فلسطين، وفِعْل أميركا في أفغانستان والعراق؟!
فرغم أن الرهبة والرعب أُلقِيَ في قلوب الأعداء، إلاَّ أن حروب المسلمين كانت رحمة للعالمين؛ حتى لقد سَعِدَ الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظلِّ حكم الإسلام أيما سعادة؛ عملاً بقوله : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاءٌ خاصٌّ بهم، ولم يُفَرَّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة؛ فكان العجب حقًّا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يَعْلَمُ ما يُصلِحُ كونَه وأرضه وعبيده؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
ثالثًا: تساؤل البعض عن عوامل الهزيمة في بلاط الشهداء؛ إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله r وصحابته -وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين- بالغنائم وحب الدنيا؟! وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!
وللإجابة على الشقِّ الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114هـ=732م فإنها قد حدثت مع الصحابة y في عهد الرسول سنة 3هـ=625م وذلك في غزوة أُحُد، والتي نزل فيها قوله مخاطبًا الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وكأنَّ غزوة أُحُدٍ تُعيد نفسَها من جديد في بلاط الشهداء.
فقد نزلت هذه الآية في الصحابة y حين خالفوا أمر الرسول ، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم طلبًا للغنيمة، بعد أن تيقَّنوا من النصر، فكانت الهزيمة بعد النصر؛ حتى إن عبد الله بن مسعود t قال: ما كنتُ أحسب أنَّ مِنَّا مَنْ يُريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152][6].
وهكذا في بلاط الشهداء كانت الغَلَبَةُ للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفَّ النصارى حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوب المسلمين- حدث الانكسار في الجيش ثم هُزِمُوا.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، يقول: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}؛ أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد[7]. وهكذا في بلاط الشهداء، لم يُستَأْصَلِ الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.
وإذا جئنا إلى ما قبل أُحُد، وإلى الرَّعيل الأول من الصحابة y في غزوة بدر وجدنا -أيضًا- صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم؛ حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تُعَظِّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. وهو كلام له وَقْعُ السِّهَام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.
ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس البشرية، وقد حدث مثله في بدر وفي أُحُد، لكن كان هناك اختلافٌ؛ فالرسول بعد غزوة أُحُد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمَّس المسلمين على الجهاد، وذكَّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد[8]، فكانت الغلبة وردُّ الاعتبار، أمَّا بعد بلاط الشهداء فلقد قام بالفعل رجل من المسلمين هو عقبة بن الحجاج -رحمه الله-، يُحَمِّسهم ويُشَجِّعهم، إلاَّ أنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كموقعة حمراء الأسد بعد أُحُد -يسترد فيها المسلمون اعتبارهم وثقتهم بأنفسهم.
كذلك اختلف الفريقان في أن معظم جيش المسلمين في بلاط الشهداء لم يرجع عن حبِّه للدنيا وتعلُّقه بها، أمَّا في أُحُد فقد قال عنهم : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ ولذلك لم يَعُدِ المسلمون بعد بلاط الشهداء كما عادوا بعد أُحُد مباشرة.
ومن أَوْجُهِ الشبه الكبيرة -أيضًا- بين أُحُد وبلاط الشهداء أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول في أُحُد حدث الانكسار[9]، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبدُ الرحمن الغافقي -رحمه الله- انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.
مشكلات القومية والعنصرية
وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت -أيضًا- في عهد الرسول ، وهذا لا يُعَدُّ قَدْحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة، بقدر ما هو بيانٌ لأمور فُطِرَت وجُبِلَت عليها النفسُ الآدمية، لكن فرقٌ بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيِّها.
ولعلَّنَا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذرٍّ t وبين بلال بن رباح t؛ حين عيَّره أبو ذرٍّ بأُمِّه في خلاف بينهما؛ قائلاً لبلال: يابن السوداء.
فذهب بلال إلى رسول الله مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من الرسول إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ: «طَفُّ الصَّاعِ[10]، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[11]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»[12].
والعبرة هنا بردِّ فعل أبي ذرٍّ t حيال هذا الغضب من رسول الله ، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذرٍّ إلاَّ أن وضع رأسه على التراب مُصرًّا على أن يطأ وجهَه بلالٌ t بقدمه؛ حتى يُكَفِّر عن خطيئته تلك، وكان رَدُّ فعل بلال tأن غفر لأبي ذرٍّ، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا -أيضًا- بين الأوس والخزرج، حين فَتَنَ بينهم شاسُ بن قيس، فقالت الأوس: يا لَلأَوس. وقالت الخزرج: يا لَلْخَزرج. وحينها قال الرسول : «اللهَ اللهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»[13].
وليس أدل على تلك القَبَلِيَّة مما حدث بمجرَّد وفاة الرسول من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مُسَيْلِمَة الكَذَّاب، حتى سُئِلَ رجلٌ من أتباع مُسَيْلِمَة: أتعلم أن محمدًا صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلمُ أنَّ محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكنَّ كاذب بني ربيعة، أحبُّ إليَّ من صادق مضر[14]. هكذا كانت النظرة قَبَلِيَّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبَه ما قال مثل قولته هذه.
إذًا فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله ، إلاَّ أن الرسول كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويُحَفِّز الناس بالإيمان ويُقَرِّبهم إلى ربهم، ويُذَكِّرهم بالآخرة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزون ما حدث ولا يعودون، متذكِّرين قوله في كتابه الكريم: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101- 103].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص17، وابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والمقري: نفح الطيب 1/254.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص24.
[3] البخاري: كتاب التيمم 328 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة 521.
[4] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها، 1731.
[5] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2614 عن أنس بن مالك.
[6] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 7/294، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/136.
[7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/133.
[8] ابن عبد البر القرطبي: الدرر في اختصار المغازي والسير 1/167، وابن كثير: السيرة النبوية 4/52.
[9] ابن كثير: السيرة النبوية 1/158.
[10] طَفُّ الصاع: أي كلكم قريبٌ بعضُكم من بعض؛ فليس لأحد فضْلٌ على أحد إلا بالتقوى؛ لأَنَّ طَفَّ الصاع قريب من ملئه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طفف 9/221.
[11] خولكم: خدمكم، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/115.
[12] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك 30، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل... 1661.
[13] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة المنافقون 4624 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا 2584.
[14] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/277، وابن كثير: البداية والنهاية 6/360
بعد استشهاد عَنْبَسَة بن سُحَيْم -رحمه الله- بدأت الأمور في التغيُّر؛ فقد تولَّى حكم الأندلس مِن بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، فعلى مدى خمس سنوات فقط (107-112هـ=725-730م) تولَّى إمارة الأندلس ستة ولاة، كان آخرهم رجل يُدعى الهيثم بن عبيد الكلابي –أو الكناني حسب بعض الروايات- وكان عربيًّا متعصبًا لقومه وقبيلته[1].
ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين: المسلمون العرب من جهة والمسلمون الأمازيغ (البربر) من جهة أخرى، وكانت خلافات بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح الله على المسلمين هذه المناطق وحتى هذه اللحظة، ولم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معاركُ ومشاحناتٌ بين المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ (البربر)[2]، حتى مَنَّ الله على المسلمين بمَنْ قضى عليها ووحَّد الصفوف من جديد، وبدأ يبثُّ في الناس رُوح الإسلام الأولى، التي جمعت بين الأمازيغ (البربر) وبين العرب، والتي لم تُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغَافِقِيُّ -رحمه الله.
عبد الرحمن الغافقي
مَنْ يكون عبد الرحمن الغافقي؟
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ (ت 114هـ=732م)، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويُكنى أبا سعيد, وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين –رحمه الله[3].
مولده
ربما يكون وُلِدَ في اليمن ورحل إلى إفريقية، وَفَدَ على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ووليَ قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس[4].
فكره العسكري
تميَّز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد؛ حتى لا تتشتَّت الأمور ويبعد الهدف في ظلِّ التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته.
كما تميَّز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن، بين ما يملك من قوى وما يُريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي؛ أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادًا قويًّا من كافَّة النواحي، والتأكُّد من توافر كل أنواع القوة؛ بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوَّة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءً بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى؛ فإن أي قصور في أي نوع منها كفيلٌ بجلب الهزيمة على الجيش كله.
خلُقه
وكان t، من أحسن الناس خُلُقًا[5]، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد الصحابة –رضي الله عنهم؛ فلا عجب إذا رأينا منه حُسْنَ السيرة في أخلاقه مع رعيته، ولا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل؛ فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس؛ فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله .
قال عنه الذهبي –رحمه الله: عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيّ أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر، وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض[6]، وذكره ابن بشكوال فيمن دخل الأندلس من التابعين[7].
وذكر الحميدي أنه روى الحديث عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان صالحًا جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عَدْلَ القسمة في الغنائم[8].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص31، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، وفيه أن محمد بن عبد الله الأشجعي ولي بعده شهرين، والمقري: نفح الطيب 1/235، 3/18.
[2] انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص86، 87.
[3] الحافظ أبو الوليد الأزدي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس 1/298، والزركلي: الأعلام 3/212.
[4] الزركلي: الأعلام 3/212.
[5] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275، والمقري: نفح الطيب 3/15.
[6] الذهبي: تاريخ الإسلام 7/414.
[7] المقري: نفح الطيب 3/15.
[8] الحميدي: جذوة المقتبس 7/274، 275.
فتوحات عبد الرحمن الغافقي
بعد أن وحَّد عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- المسلمين، وتيقَّن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجَّه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل[1]، ثم مدينة بودرو[2] Bordeaux ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة بواتييه[3] Poitiers، ثم وصل إلى تور[4] Tours، وهي المدينة التي تسبق باريس والمسافة الفاصلة بينهما حوالي 295كم، والمسافة بينها وبين قُرْطُبَة حوالي ألف كيلو متر؛ أي أنه توغَّل كثيرًا جدًّا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال[5].
وعلى بعد بحوالي 25 كم إلى الشمال الشرقي لمدينة بواتييه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تُسَمَّى البلاط[6]، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعَدُّ حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا[7].
وقفة في تاريخ ومصادر معركة بلاط الشهداء
لموقعة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع؛ ذلك أن المصادر الإسلامية تصمت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المعركة ما زال مفقودًا في بطون المخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور؛ فالمسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزوة أُحُد وحُنَين، وحتى سقوط غَرْنَاطة، أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً.
فإن لم يكن ما كُتب عن المعركة مفقودًا، وكان المسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع المؤرخ المحقق الدكتور حسين مؤنس الذي أدهشه قلة التفاصيل، واجتهد في معرفة السبب فلم يجد إلاَّ أن قال: «الواقع أن المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114 و115 هـ»[8].
وحين خلت تفاصيل المعركة من الرواية الإسلامية لم يبقَ في المتاح إلاَّ الرواية الأوربية المسيحية عنها، وهي روايات حافلة بكثير من التفاصيل، وبكثير من الأساطير كذلك.. ولقد تشبعت الروايات الأوربية بالمبالغات في وصف المعركة ووصف النصر العظيم للفرنجة، والهزيمة الساحقة الماحقة للمسلمين، مبالغة مَنْ رأى فيها إنقاذ المسيحية من الفناء على يد الإسلام الزاحف بسرعة مدهشة، والذي لم يقف أمامه حتى الآن شيء، فإذ به ينتقل من الشرق إلى الغرب، ومن جنوب المتوسط إلى شماله، ويكاد يجعل بحر المتوسط بحيرة تامَّة لمملكته الناهضة.
إذًا فكلُّ ما نعرفه عن تفاصيل بلاط الشهداء مأخوذ من الرواية الأوربية لا غير، وخلاصة ما تُقَدِّمه الرواية الغربية نميل إلى تصديقه بعد استخلاصه من المبالغات، وإن كان لا يسلم من مؤاخذات واعتراضات كذلك، وسنعرض لها بعد توقُّفنا أمام المعركة.
الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة
رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- تلك إلاَّ أنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه؛ ومن ثَمَّ فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها.
ثم عندما وصل عبد الرحمن الغَافِقِيُّ –رحمه الله- بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجدَّدت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ يقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم. ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد. ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك.
يمكننا أن نضيف -أيضًا- ما قد يكون من زهو واغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي، ولم تقف لهم قوَّة ذات بال.
معركة بلاط الشهداء
معركة بلاط الشهداءالتقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع شارل مارتل تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.
حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.
بالغت الروايات الأوربية كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شَكٍّ رقم مبالغ فيه جدًّا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يَتَعَدَّ خمسين ألفًا، أو ثمانين في أقصى التقديرات.
بعد انقضاء اليوم العاشر انسحب المسلمون إلى الجنوب، وجاء اليوم الحادي عشر فنهض الفرنجة لمواصلة القتال، فلم يجدوا من المسلمين أحدًا، فتقدَّمُوا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية، وقد فاضت بالغنائم والأسلاب والخيرات، فظنُّوا الأمر خدعة، وتريَّثُوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا ما فيه، ولم يُفَكِّر أحد منهم في تتبُّع المسلمين؛ إما لأنهم خافوا أن يكون العرب قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركًا، أو ربما لأن شارل مارتل اطمأن أنه يستطيع العودة إلى بلاده في الشمال مطمئنًّا إلى انصراف المسلمين عنها[9].
قصة الغنائم
رأي الدكتور عبد الرحمن الحجي
يرفض الدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه «التاريخ الأندلسي» قصة الغنائم هذه، ويسوق في الردِّ عليها جملة من الأمور هي: عدم ثبوت شيء متعلق بأن ثمة نزاعًا كان بين العرب والبربر لا من قبل المعركة ولا في الوقت الذي تلاها، كذلك ما يبدو في قصة الغنيمة من أسطورية تجانب ما عُرف عن الأهداف العليا للفتح الإسلامي، ولما عُرف عن الفاتحين في فرنسا من الزهد في مثل هذه الأمور، كما أنه من الغريب أن يحمل الفاتحون غنائمهم وهم متوجهون إلى معركة يعرفون أنها حاسمة، ولو قُدِّر أن اجتمع لهم مثل هذا القدر الضخم من الغنائم -كما تصف الرواية الأوربية- لكانوا أودعوها مدنًا مفتوحة وما حملوها معهم؛ لا سيما وقد أظهرت لنا طبيعة الفتوح في الأندلس اهتمام المسلمين بالخيل والسلاح تحديدًا لا بغير ذلك من الغنائم، كذلك تتناقض الرواية الأوربية حين تقول بأن الفرنج لم يكتشفوا حيلة المسلمين وانسحابهم إلاَّ في صبيحة اليوم التالي، وقد كانوا يتجهزون لقتال، ما يعني أنه لم تكن تبدو بوادر انتصار لهم ولا هزيمة للمسلمين، فضلاً عن أن تكون هزيمة ساحقة كما تمَّ تصويرها، بل الأرجح في هذه الحالة أن المسلمين انسحبوا بشكل تكتيكي طبيعي لَمَّا استشهد الغافقي، وهو قرار عسكري يُؤخذ بلا حرج حين تبدو صعوبة المعركة، ولا يعني في حدِّ ذاته هزيمة فادحة[10].
إلاَّ أننا لا نميل كل الميل إلى كلام الدكتور الحجي، وإن كان طرح بعض ما يحتاج إلى دراسة متخصصة، ذلك أن الفاتحين من البشر ويجوز أن يحرصوا على الغنائم وأن يُفتنوا بها، وليسوا –على عظمتهم- بأكرم من الصحابة –رضي الله عنهم- الذين فُتنوا بها في غزوة أُحُد، كما أن الهزيمة في بلاط الشهداء إذا لم تكن كبيرة لكُنَّا سمعنا بعودة أخرى للمسلمين إلى تلك المناطق، إلاَّ أن ذلك لم يحدث؛ وهذا ما يعطينا الإيحاء القوي -الذي يفتقر للدليل الأكيد- بأنها كانت حقًّا هزيمة مؤثِّرة، وبها توقَّفت الفتوحات في شمال فرنسا، كذلك لا يُفَسِّر الدكتور الحجي طبيعة الصعوبات التي تدفع المسلمين لانسحاب ليس بعده رجعة، وقد عهدناهم في كل مراحل التاريخ -وفي فتح الأندلس نفسها- يُقاتلون في عدد وعدَّة أقل كثيرًا من عدوهم، وفي أرض لا يعرفونها كما يعرفها أصحابها.
رأي الدكتور عبد الحليم عويس
وأمَّا الدكتور عبد الحليم عويس فيبدو أنه ممن يميل إلى تفسير الغنائم كسبب للهزيمة؛ يقول: «قصة الغنيمة في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تُلقيه علينا -كذلك- أغرب! لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين -عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة- كذلك! فقصة الغنيمة.. هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول .. وخالف الرماةُ أمرَه، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة.. فكانت أُحُد، وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خِيرَة المسلمين.. بسبب الغنيمة.. نعم بسبب الغنيمة!
معركة بلاط الشهداءوكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي.. سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة.. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق.. وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة.. أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصير، لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك- السَّمْح جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»[11].
وعلى كل حال، فما زال الباحثون في انتظار الجديد الذي تجود به الأيام من نفائس المخطوطات، مما عسى أن يساعدنا في فهم هذه المعركة التي بها توقفت فتوحنا في أوربا.
النصر الكارثي
ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس: "إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية[12]".
بين التاريخ والواقع
يقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري t أن رسول الله قال: «فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[13]. فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ، حتى مرَّت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960م، فلمَّا قامت الحركات الاستقلاليَّة منذ سنة 1920م وما بعدها، فكَّرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلاَّ إشاعة الفتنة بين العرب والأمازيغ (البربر)، وضَرْب بعضهم ببعض، فكانت تُشِيعُ بين الأمازيغ البربر أنهم قريبون من العنصر الآري وهو العنصر الأوربي، وبعيدون عن العنصر السامي وهم العرب؛ أي: أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء. وذلك للتشابه الكبير بين الأمازيغ (البربر) والأوربيين في المظهر، وهذا ما لا يعترف به الإسلام ولا يُقِرُّه على الإطلاق، فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق الأمازيغ (البربر)، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتمَّ فصل الأمازيغ (البربر) عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء، إلاَّ أنها لم تُفلح على الإطلاق في تحويل الأمازيغ البربر من الإسلام إلى النصرانية، فظلَّ الأمازيغ (البربر) على إسلامهم، وإن كانت لغتهم قد تغيَّرت.
وكانت قبائل الأمازيغ (البربر) تمثِّل 15٪ من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية، إلاَّ أنهم كانوا يتمسَّكون بالعربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن حين قامت فرنسا بنفخ نار العصبية، بدأت تُذْكي الروح الأمازيغية (البربريَّة) في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تُعَلِّم اللغة الأمازيغية؛ حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديميةً خاصةً لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية؛ رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، وقامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة، وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة الأمازيغية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من الأمازيغ (البربر) لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا؛ حتى إنها في عام 1998م أنشأت ما يُسَمَّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تُجَمِّع الأمازيغ (البربر) من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتُعَلِّمهم اللغة الخاصة بهم؛ وكل ذلك لفصل الأمازيغ (البربر) عن العرب، تلك الجموع التي ما هي إلاَّ جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في بلاط الشهداء وما تلاها فلم تتوانَ، وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد مسلم عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تَقَدَّم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردَّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تُريد بلقنة فرنسا. أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، فهذا الأمر -في رأيهم- حلال على الجزائر حرام على فرنسا[14]!
[1] آرل: هي مدينة في جنوب فرنسا، تقع في مقاطعة بوشيه دو رون، بالقرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
[2] بوردو (بالفرنسية: Bordeaux): هي مدينة فرنسية. تقع في جنوب غرب فرنسا.
[3] بواتييه: مدينة فرنسية على بعد 332 كم إلى الجنوب الغربي من باريس.
[4] تور: مدينة فرنسية تقع على نهر اللوار في وسط غرب فرنسا.
[5] انظر تفصيل زحف عبد الرحمن الغافقي في بلاد فرنسا: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 87-91، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص193-203، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص221-227.
[6] البلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر.
[7] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص227.
[8] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص228.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص229.
[10] انظر التفصيل: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص197 وما بعدها.
[11] عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية ص7، 8.
[12] انظر: شوقي أبو خليل: بلاط الشهداء ص 44، وعبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص199-203.
[13] البخاري: كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961.
[14] فهمي هويدي: مقال: «درس فتنة الأمازيغ»، صحيفة الأهرام 3/7/2001م.
وقفات
معركة بلاط الشهداءبعد استشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه، وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون، وتوقَّفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض النقاط المهمَّة، والتي نَوَدُّ الوقوف أمامها قليلاً.
أولها: لماذا لم يقمْ أهل الأندلس بالثورات رغم ضآلة الحاميات الإسلامية في الأندلس؟
كان قِوَامُ الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس ثلاثين ألفَ مقاتلٍ، كان مع طارق بن زياد منهم اثنا عشر ألفًا[1]، وقد استُشهِد منهم في وادي بَرْبَاط ثلاثةُ آلافٍ، واستشهد مثلُهم في الطريق من وادي بَرْبَاط إلى طُلَيْطِلَة، فوصل طارق بن زياد إلى طُلَيْطِلَة بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا[2]، فأصبح قِوَام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل، تمَّ توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض مناطق جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تُفْتَح.
فلماذا لم يقم أهل هذه البلاد -على سَعَتِها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة فيها؛ رغم قِلَّتها الملحوظة التي لا تُقارَن بعدد السكان على الإطلاق؟!
ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب! فالسؤال الذي كان متوقعًا هو: لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا؛ تُنهب أموالهم وتُنتهك أعراضهم فلا يعترضون؛ حُكَّامهم في الثروات والقصور يتنعَّمُون، وهم لا يجدون ما يسدُّ الرمق، يزرعون الأرض وغيرُهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترَوْن مع تلك الأرض التي يزرعونها.
فلماذا إذًا يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لُذريق جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!
ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرَّم كل ما سبق، وجاء ليقول لهم: تعالَوْا أُعْطِكم بدلاً من الظلم عدلاً؛ ليس هبةً مني، لكنه حقٌّ لكم ولقومكم وأولادكم وذريتكم من بعدكم. إنه الإسلام الذي لم يُفَرِّق بين حاكم ومحكوم، فإن حدث لأيٍّ منكم مظلمة قام القاضي لا يُفَرِّق بين المسلم واليهودي والنصراني، أيًّا كان شكله أو لونه أو جنسه.
إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم؛ إنما بقدر أعمالهم، والأعمال متاحة للجميع الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول فيه الحاكم لك: إِنْ كنتَ من المسلمين وكنت غنيًّا فلن تدفع إلاَّ 2.5٪ زكاةً لأموالك، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحَوْلُ، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئًا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.
وإن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًّا وقادرًا على القتال -وليس غيرَ ذلك- فستدفع جزيةً؛ هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يُدَافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فستُرَدُّ إليك أموالك.
إنه الإسلام خلاص الشعوب؛ وحين عرفه أهل الأندلس تمسَّكوا به، واعتنقوه اعتناقًا، ولم يرضَوْا عنه بديلاً؛ فكيف يحاربونه ويُضَحُّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذلِّ والحرمان؟!
ثانيًا: ولكن البعض سيقول: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين؟! ألم يكن هناك ولو رجل واحد يُريد أن يثور ويعترض حبًّا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضُيِّعَتْ عليه؟!
نقول: بلى؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح، الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويُحَقِّقوا مصالح كانت لهم، أمَّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده في قوله: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
فلقد كانت للمؤمن زمنَ الفتوحات رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامَّة، فالله يُلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً؛ فيخافه القريب والبعيد، يقول : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[3]. ويقول : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].
ولم يكن هذا الرعب بسبب بشاعة في الحرب، أو إجرام منقطع النظير، إنما كان هبة ربانية لجند الله ولأوليائه، فلم تكن حرب الإسلام إلاَّ رحمةً للناس كل الناس؛ فها هو ذا كما جاء في الحديث الشريف عن بُريدة t حين كان يُوَدِّع الجيوش فكان يخاطبهم؛ قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»[4].
وفي رواية: «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً»[5].
فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا مِن قَتْلِ مائتي ألف مسلمٍ من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟! أين هذا من فِعْل الروس في الشيشان، وفِعْل الهنود في كشمير، وفِعْل اليهود في فلسطين، وفِعْل أميركا في أفغانستان والعراق؟!
فرغم أن الرهبة والرعب أُلقِيَ في قلوب الأعداء، إلاَّ أن حروب المسلمين كانت رحمة للعالمين؛ حتى لقد سَعِدَ الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظلِّ حكم الإسلام أيما سعادة؛ عملاً بقوله : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاءٌ خاصٌّ بهم، ولم يُفَرَّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة؛ فكان العجب حقًّا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يَعْلَمُ ما يُصلِحُ كونَه وأرضه وعبيده؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
ثالثًا: تساؤل البعض عن عوامل الهزيمة في بلاط الشهداء؛ إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله r وصحابته -وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين- بالغنائم وحب الدنيا؟! وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!
وللإجابة على الشقِّ الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114هـ=732م فإنها قد حدثت مع الصحابة y في عهد الرسول سنة 3هـ=625م وذلك في غزوة أُحُد، والتي نزل فيها قوله مخاطبًا الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وكأنَّ غزوة أُحُدٍ تُعيد نفسَها من جديد في بلاط الشهداء.
فقد نزلت هذه الآية في الصحابة y حين خالفوا أمر الرسول ، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم طلبًا للغنيمة، بعد أن تيقَّنوا من النصر، فكانت الهزيمة بعد النصر؛ حتى إن عبد الله بن مسعود t قال: ما كنتُ أحسب أنَّ مِنَّا مَنْ يُريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152][6].
وهكذا في بلاط الشهداء كانت الغَلَبَةُ للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفَّ النصارى حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوب المسلمين- حدث الانكسار في الجيش ثم هُزِمُوا.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، يقول: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}؛ أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد[7]. وهكذا في بلاط الشهداء، لم يُستَأْصَلِ الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.
وإذا جئنا إلى ما قبل أُحُد، وإلى الرَّعيل الأول من الصحابة y في غزوة بدر وجدنا -أيضًا- صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم؛ حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تُعَظِّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. وهو كلام له وَقْعُ السِّهَام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.
ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس البشرية، وقد حدث مثله في بدر وفي أُحُد، لكن كان هناك اختلافٌ؛ فالرسول بعد غزوة أُحُد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمَّس المسلمين على الجهاد، وذكَّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد[8]، فكانت الغلبة وردُّ الاعتبار، أمَّا بعد بلاط الشهداء فلقد قام بالفعل رجل من المسلمين هو عقبة بن الحجاج -رحمه الله-، يُحَمِّسهم ويُشَجِّعهم، إلاَّ أنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كموقعة حمراء الأسد بعد أُحُد -يسترد فيها المسلمون اعتبارهم وثقتهم بأنفسهم.
كذلك اختلف الفريقان في أن معظم جيش المسلمين في بلاط الشهداء لم يرجع عن حبِّه للدنيا وتعلُّقه بها، أمَّا في أُحُد فقد قال عنهم : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ ولذلك لم يَعُدِ المسلمون بعد بلاط الشهداء كما عادوا بعد أُحُد مباشرة.
ومن أَوْجُهِ الشبه الكبيرة -أيضًا- بين أُحُد وبلاط الشهداء أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول في أُحُد حدث الانكسار[9]، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبدُ الرحمن الغافقي -رحمه الله- انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.
مشكلات القومية والعنصرية
وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت -أيضًا- في عهد الرسول ، وهذا لا يُعَدُّ قَدْحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة، بقدر ما هو بيانٌ لأمور فُطِرَت وجُبِلَت عليها النفسُ الآدمية، لكن فرقٌ بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيِّها.
ولعلَّنَا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذرٍّ t وبين بلال بن رباح t؛ حين عيَّره أبو ذرٍّ بأُمِّه في خلاف بينهما؛ قائلاً لبلال: يابن السوداء.
فذهب بلال إلى رسول الله مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من الرسول إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ: «طَفُّ الصَّاعِ[10]، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[11]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»[12].
والعبرة هنا بردِّ فعل أبي ذرٍّ t حيال هذا الغضب من رسول الله ، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذرٍّ إلاَّ أن وضع رأسه على التراب مُصرًّا على أن يطأ وجهَه بلالٌ t بقدمه؛ حتى يُكَفِّر عن خطيئته تلك، وكان رَدُّ فعل بلال tأن غفر لأبي ذرٍّ، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا -أيضًا- بين الأوس والخزرج، حين فَتَنَ بينهم شاسُ بن قيس، فقالت الأوس: يا لَلأَوس. وقالت الخزرج: يا لَلْخَزرج. وحينها قال الرسول : «اللهَ اللهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»[13].
وليس أدل على تلك القَبَلِيَّة مما حدث بمجرَّد وفاة الرسول من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مُسَيْلِمَة الكَذَّاب، حتى سُئِلَ رجلٌ من أتباع مُسَيْلِمَة: أتعلم أن محمدًا صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلمُ أنَّ محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكنَّ كاذب بني ربيعة، أحبُّ إليَّ من صادق مضر[14]. هكذا كانت النظرة قَبَلِيَّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبَه ما قال مثل قولته هذه.
إذًا فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله ، إلاَّ أن الرسول كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويُحَفِّز الناس بالإيمان ويُقَرِّبهم إلى ربهم، ويُذَكِّرهم بالآخرة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزون ما حدث ولا يعودون، متذكِّرين قوله في كتابه الكريم: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101- 103].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص17، وابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والمقري: نفح الطيب 1/254.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص24.
[3] البخاري: كتاب التيمم 328 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة 521.
[4] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها، 1731.
[5] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين 2614 عن أنس بن مالك.
[6] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 7/294، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/136.
[7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/133.
[8] ابن عبد البر القرطبي: الدرر في اختصار المغازي والسير 1/167، وابن كثير: السيرة النبوية 4/52.
[9] ابن كثير: السيرة النبوية 1/158.
[10] طَفُّ الصاع: أي كلكم قريبٌ بعضُكم من بعض؛ فليس لأحد فضْلٌ على أحد إلا بالتقوى؛ لأَنَّ طَفَّ الصاع قريب من ملئه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طفف 9/221.
[11] خولكم: خدمكم، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/115.
[12] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك 30، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل... 1661.
[13] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة المنافقون 4624 عن جابر بن عبد الله، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا 2584.
[14] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/277، وابن كثير: البداية والنهاية 6/360
- angelالمدير العام
- عدد المساهمات : 8871
نقاط : 14094
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 27/10/2011
الموقع : عمان
المزاج : إذا ضبطت نفسك متلبساً بالغيرة "على " إنسان ما فتفقد أحاسيسك جيداً فقد تكون في حالة " حب " وأنت "لا تعلم"..
رد: التاريخ الأندلسي6
الإثنين ديسمبر 19, 2011 10:34 pm
التاريخ الأندلسي6
- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
رد: التاريخ الأندلسي6
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 11:55 pm
اهلا انجل
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى