- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
التاريخ الأندلسي4
الإثنين نوفمبر 21, 2011 8:35 pm
خطبة طارق بن زياد[1]
طارق بن زياد وفتح الأندلسأورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ[2] لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة[3]، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي[4]، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان[5]، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون»[6].
ولنا وقفات مع هذه الخطبة
1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.
2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.
4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.
5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ.
مسألة حرق السفن
طارق بن زياد وحرق السفنقبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.
فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.
في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.
ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.
ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.
وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.
رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.
خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].
فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.
سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات[7]- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.
لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.
طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس
بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق[8]، فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:
1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.
2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.
3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.
4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.
5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.
6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.
لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة.
[1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص59، 61.
[2] الوَزَر: المَلْجَأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/845، وابن منظور: لسان العرب، مادة وزر 5/282، والمعجم الوسيط 2/1028.
[3] النَّجْوة: المكان المرتفع الذي تَظنُّ أنه نجاؤك. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر؛ بعيد عنه بريء سالم. 2/905.
[4] أي: لا تروا لأنفسكم فضلاً عليَّ، من رغب بنفسه عن فلان: رأى لنفسه عليه فضلاً. ابن منظور: لسان العرب، مادة رغب 1/422، والمعجم الوسيط 1/356.
[5] العِقْيان قيل: هو الذهب الخالص. وقيل: هو ما ينبُتُ منه نباتًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة عقا 15/79.
[6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/321، 322، والمقري: نفح الطيب 1/240، 241.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والحميري: الروض المعطار ص35.
[8] المقري: نفح الطيب 1/259.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص72.
لا بُدَّ هنا -قبل استكمال مسيرة الفتح- من وقفة مع طبيعة الجزية في الإسلام؛ لبيان حقيقتها وما يُثار حولها من شبهات، فلم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم؛ فإنَّ أَخْذَ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمرٌ حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب؛ حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلاَّ صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنها وبيانها فيما يلي:
أولاً: تعريف الجزية
الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن[1].
وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتُهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
ثانيًا: على مَنْ تُفرَضُ الجزية؟
من رحمة الإسلام وعدله أن خصَّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين؛ فهي:
- تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.
- تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ من الأطفال.
- تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات غير القادرين على القتال.
- تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير؛ بل إن الفقراء من أهل الكتاب النصارى واليهود والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين؛ إن كانوا في بلد يُحكَم فيها بالإسلام.
أي أنها تُؤْخَذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ حتى من القادرين الذين تفرَّغوا للعبادة.
ثالثًا: قيمة الجزية
فليُلاحِظ كلُّ مَنْ يطعن في أمر الجزية ويقول: إنها صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب. خاصَّة حين يعلم أنها تُدفَع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون؛ وله أن يعلم -أيضًا- أن قيمة الجزية هذه أقلُّ بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟!
في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كانت قيمة ما يدفعه الفرد ممن تنطبق عليه الشروط السابقة من الجزية للمسلمين دينارًا واحدًا في السنة؛ بينما كان المسلم يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وفي حالة إسلام الذمِّيِّ تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية -تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم- فهناك مَنْ يدفع 10 و20٪ ضرائب، بل هناك مَنْ يدفع 50 وأحيانًا 70٪ ضرائب على ماله؛ بينما في الإسلام لا تتعدَّى الزكاة 2.5٪؛ فالجزية كانت أقلَّ من الزكاة المفروضة على المسلمين؛ وهي بهذا تُعَدُّ أقلَّ ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جِلْدَتهم.
وفوق ذلك فقد أمر الرسول ألاَّ يُكَلَّف أهلُ الكتاب فوق طاقاتهم، بل تَوَعَّد مَنْ يظلمهم أو يُؤذيهم؛ فقال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا[2]، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه يوم القيامة.
[1] الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.
[2] المعاهد: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: المناوي: فيض القدير 6/153.
[3] أبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات ( 3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445).
طارق بن زياد يتوغل في الشمال فاتحًا
طارق بن زيادانطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّه طارق بن زياد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية[1].
وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.
خط سير طارق بن زياد
ومن إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا[3].
طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة
وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.
وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصارى[4].
لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه[5].
ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته[6].
موسى بن نصير يأتي بالمدد
تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا[7].
من أين جاءوا؟
إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص19، وابن عذاري: البيان المغرب 2/8، والمقري: نفح الطيب 1/260.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص19، والمقري: نفح الطيب 1/260، 261، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص72 وما بعدها، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص41 وما بعدها.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/50.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، والمقري: نفح الطيب 1/223.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص23، 24، والمقري: نفح الطيب 1/264، 265.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/51.
[7] مجهول: أخبار مجموعة ص24.
فتوحات موسى بن نصير
طارق بن زياد وموسى بن نصير, لقاء الأبطالكان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زياد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس[1]؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة[2].
خط سير موسى بن نصير
ومن ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المدن التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة –وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.
واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].
عبد العزيز بن موسى بن نصير
فاتح البرتغال
لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.
موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح
تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5]. إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ= يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ= أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.
ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة بمَنْ معه ولحق به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس [6].
فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن ممن يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.
وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال- منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.
وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].
ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ=711م وانتهى في آخر سنة 95هـ= 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.
لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لما صدَّقه أحد؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحد فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرء وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!
ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّة محكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمة إلى إخضاع كبريات مدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي. ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لما وُفِّق إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10].
[1] تذكر بعض الروايات ذلك، انظر: مجهول: أخبار مجموعة ص24، والمقري: نفح الطيب 1/269.
[2] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص79 وما بعدها.
[3] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14،.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14، 15، والمقري: نفح الطيب 1/271.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص26، 27، وابن عذاري: البيان المغرب 2/16، والمقري: نفح الطيب 1/271.
[6] المقري: نفح الطيب 1/242.
[7] من المؤسف أن الكثيرين من المسلمين لا يعلمون عن برشلونة شيئًا إلا فريق كرة القدم المشهور، ولا يكاد يدور بخَلَدِهم أنها كانت في يومٍ ما مسلمة يُحكم فيها بشرع الله I.
[8] المقري: نفح الطيب 1/273.
[9] ابن الأثير: الكامل 4/270، والمقري: نفح الطيب 1/274-276.
[10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.
طارق بن زياد وفتح الأندلسأورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ[2] لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة[3]، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي[4]، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان[5]، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون»[6].
ولنا وقفات مع هذه الخطبة
1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.
2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.
4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.
5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ.
مسألة حرق السفن
طارق بن زياد وحرق السفنقبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.
فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.
في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.
ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.
ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.
وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.
رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.
خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].
فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.
سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات[7]- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.
لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.
طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس
بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق[8]، فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:
1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.
2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.
3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.
4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.
5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.
6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.
لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة.
[1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص59، 61.
[2] الوَزَر: المَلْجَأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/845، وابن منظور: لسان العرب، مادة وزر 5/282، والمعجم الوسيط 2/1028.
[3] النَّجْوة: المكان المرتفع الذي تَظنُّ أنه نجاؤك. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر؛ بعيد عنه بريء سالم. 2/905.
[4] أي: لا تروا لأنفسكم فضلاً عليَّ، من رغب بنفسه عن فلان: رأى لنفسه عليه فضلاً. ابن منظور: لسان العرب، مادة رغب 1/422، والمعجم الوسيط 1/356.
[5] العِقْيان قيل: هو الذهب الخالص. وقيل: هو ما ينبُتُ منه نباتًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة عقا 15/79.
[6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/321، 322، والمقري: نفح الطيب 1/240، 241.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والحميري: الروض المعطار ص35.
[8] المقري: نفح الطيب 1/259.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص72.
لا بُدَّ هنا -قبل استكمال مسيرة الفتح- من وقفة مع طبيعة الجزية في الإسلام؛ لبيان حقيقتها وما يُثار حولها من شبهات، فلم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم؛ فإنَّ أَخْذَ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمرٌ حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب؛ حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلاَّ صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنها وبيانها فيما يلي:
أولاً: تعريف الجزية
الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن[1].
وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتُهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
ثانيًا: على مَنْ تُفرَضُ الجزية؟
من رحمة الإسلام وعدله أن خصَّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين؛ فهي:
- تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.
- تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ من الأطفال.
- تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات غير القادرين على القتال.
- تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير؛ بل إن الفقراء من أهل الكتاب النصارى واليهود والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين؛ إن كانوا في بلد يُحكَم فيها بالإسلام.
أي أنها تُؤْخَذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ حتى من القادرين الذين تفرَّغوا للعبادة.
ثالثًا: قيمة الجزية
فليُلاحِظ كلُّ مَنْ يطعن في أمر الجزية ويقول: إنها صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب. خاصَّة حين يعلم أنها تُدفَع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون؛ وله أن يعلم -أيضًا- أن قيمة الجزية هذه أقلُّ بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟!
في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كانت قيمة ما يدفعه الفرد ممن تنطبق عليه الشروط السابقة من الجزية للمسلمين دينارًا واحدًا في السنة؛ بينما كان المسلم يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وفي حالة إسلام الذمِّيِّ تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية -تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم- فهناك مَنْ يدفع 10 و20٪ ضرائب، بل هناك مَنْ يدفع 50 وأحيانًا 70٪ ضرائب على ماله؛ بينما في الإسلام لا تتعدَّى الزكاة 2.5٪؛ فالجزية كانت أقلَّ من الزكاة المفروضة على المسلمين؛ وهي بهذا تُعَدُّ أقلَّ ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جِلْدَتهم.
وفوق ذلك فقد أمر الرسول ألاَّ يُكَلَّف أهلُ الكتاب فوق طاقاتهم، بل تَوَعَّد مَنْ يظلمهم أو يُؤذيهم؛ فقال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا[2]، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه يوم القيامة.
[1] الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.
[2] المعاهد: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: المناوي: فيض القدير 6/153.
[3] أبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات ( 3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445).
طارق بن زياد يتوغل في الشمال فاتحًا
طارق بن زيادانطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّه طارق بن زياد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية[1].
وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.
خط سير طارق بن زياد
ومن إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا[3].
طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة
وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.
وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصارى[4].
لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه[5].
ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته[6].
موسى بن نصير يأتي بالمدد
تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا[7].
من أين جاءوا؟
إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص19، وابن عذاري: البيان المغرب 2/8، والمقري: نفح الطيب 1/260.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص19، والمقري: نفح الطيب 1/260، 261، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص72 وما بعدها، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص41 وما بعدها.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/50.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، والمقري: نفح الطيب 1/223.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص23، 24، والمقري: نفح الطيب 1/264، 265.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/51.
[7] مجهول: أخبار مجموعة ص24.
فتوحات موسى بن نصير
طارق بن زياد وموسى بن نصير, لقاء الأبطالكان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زياد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس[1]؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة[2].
خط سير موسى بن نصير
ومن ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المدن التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة –وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.
واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].
عبد العزيز بن موسى بن نصير
فاتح البرتغال
لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.
موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح
تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5]. إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ= يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ= أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.
ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة بمَنْ معه ولحق به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس [6].
فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن ممن يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.
وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال- منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.
وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].
ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ=711م وانتهى في آخر سنة 95هـ= 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.
لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لما صدَّقه أحد؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحد فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرء وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!
ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّة محكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمة إلى إخضاع كبريات مدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي. ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لما وُفِّق إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10].
[1] تذكر بعض الروايات ذلك، انظر: مجهول: أخبار مجموعة ص24، والمقري: نفح الطيب 1/269.
[2] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص79 وما بعدها.
[3] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14،.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص26، وابن عذاري: البيان المغرب 2/14، 15، والمقري: نفح الطيب 1/271.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص26، 27، وابن عذاري: البيان المغرب 2/16، والمقري: نفح الطيب 1/271.
[6] المقري: نفح الطيب 1/242.
[7] من المؤسف أن الكثيرين من المسلمين لا يعلمون عن برشلونة شيئًا إلا فريق كرة القدم المشهور، ولا يكاد يدور بخَلَدِهم أنها كانت في يومٍ ما مسلمة يُحكم فيها بشرع الله I.
[8] المقري: نفح الطيب 1/273.
[9] ابن الأثير: الكامل 4/270، والمقري: نفح الطيب 1/274-276.
[10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص106، 107.
- angelالمدير العام
- عدد المساهمات : 8871
نقاط : 14094
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 27/10/2011
الموقع : عمان
المزاج : إذا ضبطت نفسك متلبساً بالغيرة "على " إنسان ما فتفقد أحاسيسك جيداً فقد تكون في حالة " حب " وأنت "لا تعلم"..
رد: التاريخ الأندلسي4
الجمعة ديسمبر 02, 2011 9:51 pm
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
رد: التاريخ الأندلسي4
الأحد ديسمبر 04, 2011 2:43 am
لتاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
التاريخ الأندلسي4
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى