- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
التاريخ الأندلسي 11
الإثنين نوفمبر 21, 2011 9:15 pm
أولًا: مملكة ليون
المشهد الصليبي في عهد عبد الرحمن الناصربلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).
أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.
لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.
وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).
السعي لإنشاء مملكة قشتالة
ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.
استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.
وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.
تطور الأحداث في مملكة ليون
توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.
الممالك النصرانية في عهد الناصر والمستنصر والمنصور بن أبي عامروكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.
ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.
كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.
وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.
ثانيًا: مملكة نافار
نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.
ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص580، وما بعدها بتصرف.
حضارة الأندلس
ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.
الجانب المعماري
مدينة الزهراء
مدينة الزهراءكان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].
وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة، وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ -وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].
مدينة قرطبة
مدينة قرطبة وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3]، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].
يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].
وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].
وهذا -أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].
لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].
الجانب الاقتصادي
كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].
ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].
كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور[11].
الجانب الأمني
وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].
الجانب العلمي
ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].
وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:
حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):
من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلاً في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].
محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):
من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا، وقد ولاه عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].
السياسة الخارجية
ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].
وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده - وبلا جدال - أقوى دولة في العالم.
عبد الرحمن الناصر.. الإنسان
مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.
حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].
وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]
هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا
مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ
إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ
أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ[19]
قالوا عن عبد الرحمن الناصر..
قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].
وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].
وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38، وتاريخ ابن خلدون، 4/144.
[2] المقري: نفح الطيب، 1/566.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/436.
[4] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص198.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232.
[6] المقري: نفح الطيب، 1/540.
[7] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص378.
[8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص314.
[9] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38.
[10] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص200.
[11] السابق نفسه.
[12] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/685.
[13] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص201.
[14] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص116.
[15] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص58، 59.
[16] المقري: نفح الطيب، 1/366.
[17] المصدر السابق، 1/541.
[18] انظر: ابن خاقان: مطمح الأنفس، ص103، والذهبي: تاريخ الإسلام، 25/444، والمقري: نفح الطيب، 1/573.
[19] المقري: نفح الطيب، 1/575.
[20] الذهبي: تاريخ الإسلام، 25/237.
[21] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/137.
[22] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232، والمقري: نفح الطيب، 1/379.
خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)
الخليفة الأموي الحكم المستنصراستخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.
المكتبة الأموية في قرطبة
يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].
أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.
وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!
وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].
ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].
كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].
علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر
أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م):
نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.
وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ
وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً
إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا
أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]
ابن القوطية
وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.
لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].
كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.
وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ
وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ
وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].
[1] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/194.
[2] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص41.
[3] المصدر السابق، ص42.
[4] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/146، والمقري: نفح الطيب، 1/386.
[5] تاريخ ابن خلدون، 4/146.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/240.
[7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/507. وهذا وصف المستشرق الإسباني رينهارت دوزي.
[8] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/372، 373.
[9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/61.
[10] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/368-372.
علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي
الدولة الفاطمية بالمغرب مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.
غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.
وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.
سياسة الحكم المستنصر
كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.
وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].
فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].
وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.
الاندلس والمغربوكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.
ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].
وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].
وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.
أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.
وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.
واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/242.
[2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
[3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
[5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
[6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
[7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.
مملكة ليون
المشهد الصليبي في عهد الحكم المستنصركان سانشو ملك ليون قد لجأ مع جدته طوطة ملكة نافار إلى عبد الرحمن الناصر ليُساعده على اعتلاء عرش ليون من جديد، بعدما عزله أشراف ليون عن الحكم، ووَلَّوا بدلاً منه ابن عمه أردونيو الرديء -كما ذكرنا من قبل- وقد أحسن الناصر استقبالهم، ووعدهم بالمساعدة، وأرسل طبيبًا يهوديًّا إلى سانشو ليُعالجه من بدانته المفرطة، وكذلك أمدَّ سانشو بالمال والرجال؛ ليُساعدوه على أن يعود لعرشه، في مقابل تسليم بعض الحصون على حدودهم مع الأراضي الإسلامية، وأن يهدموا حصونًا أخرى، وبالفعل عاد سانشو إلى الحُكم بمساعدة عبد الرحمن الناصر، وهرب أردونيو الرابع (الرديء) إلى برغش في قشتالة.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بوعوده التي قطعها لعبد الرحمن الناصر، فلم يهدم الحصون التي اتفقا على هدمها، كما لم يُسَلِّم المسلمين ما اتفق على تسليمه لهم من حصون أخرى، ولم يكن هذا ذكاء من سانشو؛ إذ إن أردونيو الرابع لم يزل على قيد الحياة، وسيحاول هو الآخر أن يعود إلى العرش كما حاول سانشو، فلم يكن من الصواب أن يُعادي سانشو المسلمين، بأن يتنكَّر لعهوده معهم على هذا النحو.
وبالفعل استغلَّ أردونيو هذا التطور الجديد في علاقة ليون مع المسلمين، وذهب إلى الحكم المستنصر يستنجد به، ويطلب التحالف معه؛ ليساعده على أن يعود إلى عرشه، فأحسن الحكم استقباله، ووعده بالنصرة والمساعدة، فلمَّا علم سانشو بما عزم عليه الخليفة الحكم المستنصر من مساعدة خصمه وعدوِّه، أرسل إلى الخليفة المستنصر وفدًا من أشراف ليون وأحبارها يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهَّد به لعبد الرحمن الناصر من قبل، فيهدم الحصون التي كان يجب أن يهدمها ويُسَلِّم المسلمين الحصون الأخرى.
ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، فعاد سانشو ونكث بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، فعزم المستنصر على تأديبه، وبدأ يستعدُّ لمواجهة ليون عسكريًّا، فخاف النصارى من أثر ذلك عليهم، وقرَّرُوا أن يتحدوا لمواجهة المسلمين، وكان الكونت فرنان كونثالث قد أعلن قبل ذلك بقليل استقلاله بقشتالة عن ليون، وكانت العداوة قائمة بينه وبين سانشو ملك ليون، ولكن خوفهم من المسلمين أرغمهم على أن يتَّحدوا معًا لمقاومة الضربة الإسلامية القادمة.
جهاد الحكم المستنصر ضد النصارى
تحالف سانشو مع فرنان كونثالث أمير قشتالة، ومع غرسية سانشيز ملك نافار، ومع كونت بَرْشُلُونَة، وتأهَّبوا جميعًا لصدِّ الهجوم الإسلامي الوشيك.
وخرج الحكم المستنصر على رأس صائفة عام (352هـ= 963م) معلنًا الجهاد، فاجتاحت الجيوش الإسلامية أراضي قشتالة ومَزَّقت جيوشها شَرَّ ممزَّق في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمت فرنان كونثالث، وسانشو على طلب الصلح، ثم اجتاحت الجيوش الإسلامية غربي مملكة نافار؛ عقابًا لملكها على نكثه بعهوده مع المسلمين وإغارته على أراضيهم، ثم توالت غارات المسلمين على أراضي قشتالة ما بين سنتي 963م، و967م.
مؤامرات داخلية في الممالك النصرانية
وقد تسببت الصراعات الداخلية على الحُكم في مملكة ليون، والصراعات الخارجية مع المسلمين وغيرهم في ضعف سلطان ليون في الداخل والخارج، فكثرت ثورات الزعماء والأشراف على سانشو، وكان من أشدِّ هؤلاء الثوار من الأشراف الكونت جوندسالفو سانشيز حاكم جِلِّيقِيَّة، وكان قد استطاع أن يُوَطِّد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على ثلاث قواعد مهمة؛ هي: لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته وجد الزعيم الثائر قد أرسل إليه يعرض عليه التسليم والدخول في طاعته، ثم دعاه إلى لقائه، فقبل سانشو وذهب إليه، فغدر به حاكم جِلِّيقِيَّة بأن دعاه إلى مأدبة طعام، وقدَّم إليه فاكهة مسمومة، فأكل منها سانشو، وسرعان ما شعر بآثار السمِّ تسري في جسده، فحُمل في الحال إلى ليون، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودُفن بها سنة (966م).
وتولَّى من بعد سانشو ابنه راميرو الثالث، وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتولَّت الوصاية عليه عمته الراهبة إلبيرة، ولكن ذلك لم يَرُقْ لمعظم أشراف ليون، فأبوا الاعتراف بسلطانه، ونشبت نتيجة لذلك عددٌ من الثورات المحلية، وأعلن كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وكان مَثَلُ فرنان كونثالث في الانفصال بقشتالة أقوى مشجِّع لهم على ذلك، وكانت أخطر الثورات هي ثورة جوندسالفو سانشيز قاتل سانشو؛ حيث استمرَّ على استقلاله بحكم جِلِّيقِيَّة، وحكم القواعد الثلاثة المهمة لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.
وفي خلال ذلك توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة عام (970م)، وخلفه على قشتالة ابنه غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار، وخلفه ابنه سانشو غرسية الثاني.
سفارة نصرانية إلى الحكم المستنصر
وقد تسبَّبت هذه الأحداث والاضطرابات الداخلية في الممالك النصرانية في أن تلتزم هذه الممالك الهدوء تجاه المسلمين حينًا من الزمن دون أن تحاول الاعتداء عليهم؛ بل اتجه الملوك والأمراء النصارى إ
المشهد الصليبي في عهد عبد الرحمن الناصربلغت الثورات والفتن الداخلية في الأندلس ذروتها في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وبدَّدت هذه الفتن قوى الأندلس ومواردها، وضعفت الأندلس حتى عن فرض سيطرتها على كثير من أراضيها؛ مما هيَّأ لإسبانيا النصرانية فرصة عظيمة للاستقرار ولتوطيد سلطانها في المناطق الخاضعة لها، وتنمية مواردها، وتقوية جيوشها؛ فلم يأتِ القرن العاشر الميلادي حتى كانت مملكة ليون -التي خَلَفَتْ مملكة جِلِّيقِيَّة، والتي كانت تضمُّ ولاية قشتالة- قد بلغت من القوة والبأس ما يُتيح لها أن تخوض صراعًا عنيفًا مع الأندلس، وقد بلغ هذا الصراع ذروته في عهد عبد الرحمن الناصر، حتى استطاعت ليون هزيمة عبد الرحمن الناصر في موقعة شنت إشتيبن سنة (917م)؛ وذلك بالرغم من إنجازات عبد الرحمن الناصر الداخلية، وإخماده للفتن، وإحيائه لقوة الأندلس، ثم توالت غارات ليون على الأراضي الإسلامية عقب هزيمة شنت إشتيبن، حتى وفاة ملكها أردونيو الثاني سنة (925م).
أضعف موت أردونيو الثاني مملكة ليون كثيرًا؛ إذ إن أخاه فرويلا -الذي تولَّى بعده- لم يبقَ في الحكم سوى عام واحد ثم مات، ليبدأ بموته نزاع شديد بين سانشو وألفونسو وَلَدَيْ أردونيو، وفاز ألفونسو في هذا الصراع بمعاونة ملك نافار صهره وحميه، ولكن سانشو ( أخا ألفونسو) لم ييأس، فتوَّج نفسه ملكًا في شنت ياقب ( في أقاصي جِلِّيقِيَّة) وجمع جيشًا جديدًا، ثم زحف على ليون، فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه، فعاد ألفونسو إلى الاستعانة بملك نافار، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يعود للحكم مرَّة أخرى، فعاد سانشو إلى جِلِّيقِيَّة، وظل مصرًّا على دعواه في الملك، واستمرَّت الحرب الأهلية حتى مات سانشو عام (929م)، فاستقرَّ المُلْك لألفونسو الرابع دون منازعة، ولكن هذا الاستقرار لم يدم طويلاً؛ إذ ماتت زوجة ألفونسو الرابع فحزن لفقدها حزنًا عظيمًا، فشعر باليأس وزهد في الدنيا؛ فتنازل عن العرش لأخيه راميرو الثاني، والذي تُطلق عليه المصادر الإسلامية اسم رذمير، أما ألفونسو فإنه اعتكف في دير ساهاجون واعتنق الرهبانية.
لم يُطِقْ ألفونسو الرابع حياة الرهبانية كثيرًا، فترك الدير، ونادى بنفسه ملكًا في حصن شنت منكش، وكان هذا العمل عارًا كبيرًا في نظر الرهبان، فأثاروا عنه شائعات شديدة، حتى اضطر اضطرارًا إلى أن يعود إلى الرهبانية، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى دعم ثُوَّار طُلَيْطِلَة فغادر الدير، وزحف مع بعض أنصاره إلى مدينة ليون واستولى عليها، فعاد راميرو بجيشه مسرعًا واستولى على ليون، وسمل عين أخيه وأبناءَ عمه فرويلا الثلاثة الذين ساعدوا أخاه؛ لكي يطمئن إلى أن أخاه لن يثور عليه مجدَّدًا.
وبهذا استقرَّ المُلْك لـ راميرو، الذي كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلة يمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلاَّ استعملها، فكان يُغير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضد المسلمين، وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين عبد الرحمن الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين تحت أسوار مدينة سمورة سنة (327هـ= 939م).
السعي لإنشاء مملكة قشتالة
ولكي نفهم جيدًا تطورات الأحداث في ليون فإن علينا أن نقف أمام سعي قشتالة للانفصال عن جسم مملكة ليون؛ فقد كانت قشتالة في القسم الشرقي من مملكة ليون، وكان سُكَّان هذه المنطقة من البشكنس وأهل ألبة، وكان ملوك الجلالقة قد غزوها وأضافوها إلى مملكتهم، وواجهوا مقاومة عنيفة من زعماء قشتالة، الذين حاولوا قدر استطاعتهم الحفاظ على استقلالهم، ثم ثاروا في عهد أردونيو الثاني، فحاربهم وأخضعهم وأعدم بعضهم، حتى اضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته.
استمرَّ الوضع كذلك حتى ظهور الكونت فرنان كونثالث، فحشد الكونت أنصاره وقواته وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، فهُزِم وأُسِر، ولكن القشتاليين استمرُّوا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم إلى ليون، فاضطر راميرو أن يُطلق سراح فرنان كونثالث شريطة أن يُقسم فرنان يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يُزوج ابنته أوراكا لأردونيو بن راميرو. ونَفَّذ فرنان كونثالث هذه الشروط، وأُطلق سراحه بالفعل، إلا أن هذا لم يُضعف من آماله وأحلامه في الاستقلال بقشتالة عن مملكة ليون.
وكان المسلمون في هذه الفترة قد عادوا للإغارة من جديد وبقوة على أراضي ليون، وقام عبد الرحمن الناصر بتجديد مدينة سالم -ثغر الحدود بين الأراضي الإسلامية وقشتالة- سنة (946م)، واضطر راميرو أمام هذه الضربات القوية أن يلتزم خطة الدفاع؛ فاستغل فرنان كونثالث هذه الأوضاع الجديدة، فعمل جاهدًا على توطيد مركزه، وضمِّ كل الزعماء القشتاليين تحت لوائه؛ ليسهل عليه الاستقلال بقشتالة بعد ذلك.
تطور الأحداث في مملكة ليون
توفي راميرو الثاني في أوائل سنة (950م)، وترك مِنْ بعده ولدين كان أكبرهم هو أردونيو، وهو من زوجته الأولى تاراسيا، وسانشو وهو من زوجته الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار، وكان أردونيو -في العرف الأوربي آنذاك- هو الأحق بالعرش؛ باعتبار أنه الأكبر سنًّا، غير أن أخاه قد طمع في العرش، فاستعان بأخواله من نافار، وجدته طوطة ملكة نافار، كما تحالف مع الكونت فرنان كونثالث الذي يتوق للانفصال بقشتالة؛ ومن ثَمَّ لم يكن همه إلا أن يُضعف مملكة ليون؛ حتى لو كان ملكها هو أردونيو زوج ابنته، ومع ذلك استطاع أردونيو أن يهزم سانشو والمتحالفين معه، واستقرَّ بذلك على العرش.
الممالك النصرانية في عهد الناصر والمستنصر والمنصور بن أبي عامروكانت غزوات المسلمين تتوالى في هذه الفترة على الأراضي الليونية، فاضطر أردونيو نتيجة هذه الاضطرابات الداخلية أن يطلب عقد صلح مع عبد الرحمن الناصر في أوائل سنة (955م)؛ فاشترط عليه الناصر أن يُصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر.
ثم ما لبث أن توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في المُلْكِ، فرفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع عبد الرحمن الناصر، فبعث الناصر جيشًا غزا ليون، فاضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يُقِرَّ ما سبق أن تَعَهَّد به أخوه، وبذلك ساد الهدوء بين الفريقين لفترة.
كان المتوقع أن يسود الهدوء -أيضًا- بين فرنان كونثالث في قشتالة وبين سانشو في ليون؛ إذ وقف فرنان كونثالث في صف سانشو، حينما ثار الأخير على أخيه، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك؛ إذ إنَّ فرنان كونثالث لم يلبث أن انقلب على سانشو، وأصبح يُبادله الخصومة والعداوة، ولم تلبث الأحوال أن ساءت أكثر داخل مملكة ليون عندما ثار الأشراف على سانشو، ونزعوه من العرش، بحجة أنه لم يُفلح في هزيمة المسلمين، وأن بدانته المفرطة تمنعه من ركوب الخيل ومباشرة القتال بنفسه، ففرَّ سانشو إلى جدته طوطة في بنبلونة عاصمة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، والذي كان قد تزوج ابنة فرنان كونثالث بعدما طلقها أردونيو الثالث.
وكان هذا الملك الجديد أحدبًا دميمًا سيئ الخلق، فلقبوه بالرديء، واستنجد سانشو بعبد الرحمن الناصر، وسأله أن يساعده حتى يعود للحكم، واتفقا على أن يُرسل عبد الرحمن الناصر إليه طبيبًا يهوديًّا من قُرْطُبَة ليعالجه من بدانته، وفي سنة (347هـ= 958م) ذهبت طوطة إلى قُرْطُبَة، ومعها ابنها غرسية سانشيز، الذي كانت تُحْكَم نافار باسمه، كما ذهب معها -أيضًا- سانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم عبد الرحمن الناصر بحفاوة بالغة، وعقد السلم مع طوطة وأقرَّ ولدها على نافار، ووعد بمعاونة سانشو على استرداد عرشه، وذلك مقابل تَعَهُّده بأن يُسَلِّم للمسلمين بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمدَّه عبد الرحمن الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق، وانتهت الحرب بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرَّة أخرى، وفرَّ أردونيو إلى فرنان كونثالث في برغش.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بعهوده، ولم يُنَفِّذ ما اتفق عليه مع عبد الرحمن الناصر.
ثانيًا: مملكة نافار
نشأت مملكة نافار في القرن التاسع الميلادي، وتولَّى المُلْكَ فيها سانشو غرسية الأول عقب اعتزال أخيه فرتون المُلْكَ في سنة (905م)، وكان سانشو قد خاض مع المسلمين حروبًا عديدة أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر -ولما توفي سانشو- خلفه ولده غرسية سانشيز وكان طفلاً، فتولى عمه خمينو غرسيس الوصاية عليه أولاً، ثم تولَّتْ أمه الملكة طوطة الوصاية عليه، وظلَّت تحكم باسمه طويلاً حتى بعد أن كبر ونضج، وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة مع المملكتين النصرانيتين الأخريين؛ فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجًا من أوراكا ابنة الملكة طوطة، وأخت غرسية، وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجًا من ابنة أخرى لطوطة، فكانت طوطة تحتل لذلك مقامًا ملحوظًا في الممالك الثلاث، وقد وقفت نافار -كما ذكرنا- إلى جانب سانشو عندما نشبت الحرب بينه وبين أخيه أردونيو على تولِّي العرش بعد وفاة أبيهما راميرو الثاني، ثم وقفت إلى جانبه ثانية بعدما خلعه أشراف ليون.
ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين قشتالة، ونشبت بينهما حرب شديدة هُزم فيها الكونت فرنان كونثالث، وأُسر في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة نافار، ولزمت السكينة حينًا[1].
[1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ص580، وما بعدها بتصرف.
حضارة الأندلس
ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط، بل إنه كان متكاملاً ومتوازنًا -رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت، استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.
الجانب المعماري
مدينة الزهراء
مدينة الزهراءكان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].
وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة، وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ -وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].
مدينة قرطبة
مدينة قرطبة وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3]، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].
يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية -رحمهم الله تعالى-: إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].
وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام، وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].
وهذا -أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].
لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].
الجانب الاقتصادي
كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل -رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].
ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].
كان من اهتماماته -أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث، وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك -على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك -أيضًا- سوق للزهور[11].
الجانب الأمني
وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].
الجانب العلمي
ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].
وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:
حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):
من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلاً في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].
محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):
من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا، وقد ولاه عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].
السياسة الخارجية
ذاع صيت عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا، وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].
وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلاً في عهد عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، حتى أصبح -بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل -وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور، فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده - وبلا جدال - أقوى دولة في العالم.
عبد الرحمن الناصر.. الإنسان
مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع، وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر -الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.
حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولاً من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].
وكان يقول الشعر -أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]
هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا
مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ
إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ
أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ[19]
قالوا عن عبد الرحمن الناصر..
قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].
وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله، وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلاً لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].
وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38، وتاريخ ابن خلدون، 4/144.
[2] المقري: نفح الطيب، 1/566.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/436.
[4] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص198.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232.
[6] المقري: نفح الطيب، 1/540.
[7] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص378.
[8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص314.
[9] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38.
[10] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص200.
[11] السابق نفسه.
[12] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/685.
[13] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص201.
[14] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص116.
[15] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص58، 59.
[16] المقري: نفح الطيب، 1/366.
[17] المصدر السابق، 1/541.
[18] انظر: ابن خاقان: مطمح الأنفس، ص103، والذهبي: تاريخ الإسلام، 25/444، والمقري: نفح الطيب، 1/573.
[19] المقري: نفح الطيب، 1/575.
[20] الذهبي: تاريخ الإسلام، 25/237.
[21] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/137.
[22] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232، والمقري: نفح الطيب، 1/379.
خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)
الخليفة الأموي الحكم المستنصراستخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.
المكتبة الأموية في قرطبة
يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].
أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.
وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!
وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].
ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].
كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].
علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر
أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م):
نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.
وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ
وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً
إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا
أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]
ابن القوطية
وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.
لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].
كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.
وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ
وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ
وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].
[1] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/194.
[2] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص41.
[3] المصدر السابق، ص42.
[4] انظر: تاريخ ابن خلدون، 4/146، والمقري: نفح الطيب، 1/386.
[5] تاريخ ابن خلدون، 4/146.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/240.
[7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/507. وهذا وصف المستشرق الإسباني رينهارت دوزي.
[8] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/372، 373.
[9] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/61.
[10] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/368-372.
علاقة عبد الرحمن الناصر بالشمال الإفريقي
الدولة الفاطمية بالمغرب مات عبد الرحمن الناصر لدين الله بعد خمسين سنة من الحُكم، تمكَّن فيها من توطيد حُكم بني أمية، وإقرار قواعد حُكمهم في الأندلس، بعدما كادت تغيب شمسهم فيها، وينهار بنيان الإسلام في الأندلس كلها؛ بعد أن عصفت الفتن بالبلاد، واستبدَّ كل زعيم بولايته، وتحالف مَن استطاع منهم مع نصارى الشمال المتربِّصين، فأنعم الله على هذه الأُمَّة في ذلك الوقت بعبد الرحمن الناصر، الذي استطاع بالجهاد والمثابرة والمجالدة إعادة البلاد إلى الوحدة، فعادت للأندلس قوتها التي تمكنت بها من التصدي لنصارى الشمال وإخضاعهم، كما تمكنت من إخضاع بلاد شمال أفريقيا لسلطان عبد الرحمن الناصر.
غير أن عبد الرحمن الناصر لم يسعَ للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي سيطرة تامَّة، ولم تكن تعني له بلاد الشمال الإفريقي أكثر من أنها البوابة الجنوبية للأندلس، ولم يُحَفِّزه إلى بسط سيطرته عليها إلاَّ قيام الدولة العبيدية الخبيثة في هذه البلاد، ومعرفته بأنها لا بُدَّ أن تسعى للسيطرة على بلاد الأندلس، والقضاء على بني أمية وعلى ملكهم فيها؛ ولذلك سارع إلى بلاد شمال أفريقيا لتكون «منطقة حاجزة» في المقام الأول، ثم يستغلها بعد ذلك في إضعاف الدولة العبيدية كلما عَنَّت الفرصة.
وكان حُكَّام الشمال الإفريقي في ذلك الوقت مثل معظم حكام المسلمين آنئذٍ؛ كلُّ ما يهمهم هو أن يبقَوْا حُكَّامًا، فإن استطاعوا بعد ذلك توسيع ملكهم فعلوا، كما كانت تغلب عليهم العصبية لعرقهم ولقومهم، فأراد عبد الرحمن الناصر استغلال صفاتهم هذه، فاكتفى منهم بالخروج على سلطان العبيديين، والدخول في طاعته، وإن كان يعلم جيدًا، أنهم لن يدخلوا في طاعته إلاَّ خوفًا من بطشه، واحتماءً به من بطش العبيديين بهم، وتوطيدًا لسلطانهم في بلادهم، كما كان يعلم أنهم متى استطاعوا الاستقلال بعيدًا عن الاثنين فعلوا؛ لذلك لم يكن سلطان عبد الرحمن الناصر مستقرًّا في هذه البلاد، وكان يعتمد في الأساس على هؤلاء الأمراء الذين دخلوا في طاعته رغبًا أو رهبًا.
سياسة الحكم المستنصر
كان الحكم المستنصر على علم بكل هذا، ولم يكن يجهل منه شيئًا؛ ولذلك سعى لأن يُبقي على هذه التحالفات قوية مع هؤلاء الحكام، وبخاصة أن قوة الدولة العبيدية كانت في زيادة مستمرَّة في ذلك الوقت.
وفي سنة (360هـ) استطاع حلفاء الحكم المستنصر في شمال إفريقيا الانتصار على زيري بن مناد الصنهاجي عامل المعز لدين الله العبيدي، واستطاعوا قتله وقطعوا رأسه ورءوس كبار رجاله، وذهبوا بها إلى الحكم المستنصر في قُرْطُبَة ففرح بذلك فرحًا عظيمًا، واحتفل بهم، وأجزل لهم العطاء[1].
فعزم العبيديون على الانتقام، وعلى أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على هذه المناطق مجدَّدًا، وجرَّدوا لذلك جيشًا قويًّا سنة (361هـ)، كان على رأسه يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي الشهير ببلقين، وهو ابن القائد الذي قتله أتباع الحكم المستنصر، فاجتمع أتباع الحكم المستنصر، وقامت حرب زَبُون[2] بين الفريقين، دارت فيها الدائرة على أتباع المستنصر، وكانت زناتة من أتباع المستنصر في شمال إفريقيا، فلما أيقن محمد بن الخير أمير قبيلة زناتة بالهزيمة، اتكأ على سيفه فذبح نفسه؛ أنفة من أن يقع أسيرًا في يد عدوه، فكانت هزيمة شديدة لأتباع الحكم المستنصر، وانتصارًا ساحقًا لبلقين، الذي لم يتوانَ بعد هذا عن قتل أبناء زناتة وتخريب بيوتهم، ومطاردتهم، وخضعت لبلقين معظم المناطق التابعة للحكم المستنصر في شمال إفريقيا، وقد حاول دخول سَبْتَة، ولكنه لم يستطع لشدَّة تحصينها ومناعتها[3].
وهذا الموقف من محمد بن الخير أوضح دليل على ما كان يُسيطر على هؤلاء القوم في ذلك الوقت من عصبية جاهلية لأقوامهم، وحُبٍّ للمناصب والسلطان، ويُؤَكِّد ذلك -أيضًا- هذا الانتقام الأعمى الذي قاده بلقين ضد قبيلة زناتة.
الاندلس والمغربوكان حسن بن قنون الحسني أمير الأدارسة ممن استسلم لبلقين، وتحوَّل عن طاعة الحكم المستنصر إلى طاعة العبيديين، وأصبح يدعو لهم على منابر طَنْجَة بدلاً من الحَكم، فلمَّا علم الحَكم بما حدث واستشعر اقتراب الخطر من الأندلس إلى درجة أن طَنْجَة قد دخلت في طاعة العبيديين، بادر الحَكم فأرسل جيشًا قويًّا إلى سَبْتَة؛ لتكون قاعدته التي يتجه منها للسيطرة على بلاد الشمال الإفريقي كاملة، وأوصى قائد الجيش بالجدِّ والاجتهاد في محاربة ابن قنون، وأمره إن نصره الله تعالى ألا يفعل مثل بلقين، بل يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية، وأن يستعين في ذلك بمَنْ يدخل في طاعة بني أمية، ودارت المعارك بين جنود الأندلس، وجنود حسن بن قنون، وهُزم حسن بن قنون، وفرَّ هو ورجاله عن طَنْجَة تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم، ودخلت طَنْجَة في طاعة الحكم المستنصر، وأعطاها قادة الحكم المستنصر الأمان، وأرسلوا بالبشرى إلى قُرْطُبَة، ثم طارد الجيشُ الأندلسي فلول ابن قنون فهزموه مرَّة أخرى، وألجئوه هو ومَنْ معه من رجاله إلى جبلٍ حصين، فتبعه الجنود، ودارت بينهما معارك أخرى انهزم على أثرها، وهرب تاركًا أمتعته خلفه، ثم توالت فتوحات الأندلسيين في شمال إفريقيا.
ولكن حسن بن قنون لم ييأس، فأعاد تنظيم قواته، وقابل الجيش الأندلسي بعد أشهر قليلة، ودارت بين الفريقين معركة شديد في فحص مهران في ربيع الأول سنة 362هـ، قُتل في هذه المعركة قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم، وهُزم الجيش الأندلسي وقُتل منه حوالي خمسمائة فارس، وألف راجل، وعادت فلول الجيش الأندلسي إلى سَبْتَة، وأرسلت إلى الحكم المستنصر تطلب الغوث والمدد[4].
وعلم حسن بن قنون أن الحكم المستنصر لن يتوانى عن إمداد مَنْ بقي من الجيش الأندلسي، وتوجيهه إليه، وكان يعلم ما وصلت إليه الأندلس من القوة والرخاء في هذا الوقت، وأنه لن يستطيع أن يثبت أمام الحكم المستنصر، فأراد أن يستغلَّ هذا النصر الذي أحرزه بطلب الصلح وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، ولكن الحكم المستنصر لم ينخدع بهذا؛ وعلم أنه لا يُريد الصلح، وإنما يُريد استغلال هزيمة الأندلسيين، ليُرَتِّب قواته ويُعيد الكَرَّة من جديد بمجرَّد أن يشعر في نفسه بالقدرة على ذلك، وأن حسن بن قنون هذا لو كان يُريد الصلح، لصالح من البداية، ولما قاوم الأندلسيين كل هذه المقاومة برغم الهزائم الشديدة التي جرت عليه، فكان مما أرسله المستنصر إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا في المغرب، ردًّا على ما أبداه الحَسن من رغبة في الإنابة والصلح: «وكيف يذهب الآن هذا المذهب، وهو في طغيانه مستمرٌّ، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محاربٌ، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير مَنْ أصرَّ إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه»[5].
وبالفعل دخل في الطاعة؛ بسبب هذه السياسة الحكيمة سبعون رجلاً ممن كانوا مع حسن بن قنون من قبيلة مصمودة، ودخلوا إلى قُرْطُبَة في أول جمادى الآخرة من العام نفسه (362هـ)؛ ليُعلنوا دخولهم في طاعة الحكم المستنصر.
أمَّا حسن بن قنون فقد جهَّز له الحكم المستنصر جيشًا قويًّا، وجعل على رأسه واحدًا من أفضل قوَّاده، وأكثرهم شجاعة وشهامة، وهو غالب بن عبد الرحمن، وأمدَّه بالمال والجند وأرسله في رمضان من العام نفسه إلى بر العدوة قائلاً له: «سِرْ يا غالب مَسِيرَ مَنْ لا إذن له في الرجوع إلاَّ حيًّا منصورًا أو ميتًا معذورًا»[6]. فلمَّا نما ذلك إلى علم حسن بن قنون، وكان في البصرة (إحدى مدن المغرب الآن) تركها، ولجأ بأهله وأمواله إلى قلعة حجر النسر المنيعة القريبة من سَبْتَة، ثم دَارَ قتالٌ شديد بينه وبين الجيش الأندلسي بقيادة غالب بن عبد الرحمن، واستمرَّت المعارك أيامًا، واستمال غالب رؤساء الأمازيغ (البربر) -المنضمين لحسن والمدافعين عنه- بالمال، فانشقُّوا عنه، وبقي حسن بن قنون على عناده، وتحصَّن بالقلعة فضرب غالب حوله الحصار، وضيَّق عليه، حتى أشرف على الهلاك هو وأهله، فأرسل يطلب الأمان، فأمَّنه غالب وتسلَّم منه الحصن، وعَمِل غالب على تطهير المغرب من الخارجين عن طاعة الحكم المستنصر، وأرسل إليه الخليفة بالأموال؛ ليستميل بها قبائل الأمازيغ (البربر)، ودخل مَنْ بقي من حكام الشمال الإفريقي في طاعة الخليفة المستنصر لدين الله، واستقرَّ الأمر في بلاد الشمال الإفريقي للحكم المستنصر.
وفي سنة (364هـ) عاد القائد غالب بن عبد الرحمن في موكب عظيم إلى الأندلس، ومعه حسن بن قنون وشيعته من بني إدريس الحسنيون، ودخلوا على الخليفة المستنصر فَوَفَّى لهم بعهدهم، وأجزل لهم الأعطيات والهدايا ليتألَّفهم، وكان قد أعدَّ لهم دُورًا في قُرْطُبَة، فأُنزِلوا فيها، وعَيَّن سبعمائة من حاشيتهم في ديوانه، مبالغة في الإحسان إليهم.
واستمرَّ الحسن وذووه في ذلك حوالي عامين، ولكن الحسن بن قنون هذا كان لجوجًا سيئ الخُلق، وكانت نفقاتهم الكثيرة قد ثقلت على الخلافة، فضاق به الخليفة فأمر بترحيلهم إلى المشرق، وبالفعل رحلوا إلى مصر، واستقبلهم العزيز بالله العبيدي، وأحسن إليهم، ووعدهم بالعون والنصرة حتى يعود إليهم ملكهم في المغرب[7].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/242.
[2] حرب زَبُون تَزْبِنُ الناس؛ أي: تَصْدِمهم وتدفعهم. ابن منظور: لسان العرب، مادة زبن 13/194، والمعجم الوسيط 1/388.
[3] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/243.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/245، 246.
[5] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/469.
[6] تاريخ ابن خلدون، 6/218.
[7] انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2/244، وتاريخ ابن خلدون، 6/219.
مملكة ليون
المشهد الصليبي في عهد الحكم المستنصركان سانشو ملك ليون قد لجأ مع جدته طوطة ملكة نافار إلى عبد الرحمن الناصر ليُساعده على اعتلاء عرش ليون من جديد، بعدما عزله أشراف ليون عن الحكم، ووَلَّوا بدلاً منه ابن عمه أردونيو الرديء -كما ذكرنا من قبل- وقد أحسن الناصر استقبالهم، ووعدهم بالمساعدة، وأرسل طبيبًا يهوديًّا إلى سانشو ليُعالجه من بدانته المفرطة، وكذلك أمدَّ سانشو بالمال والرجال؛ ليُساعدوه على أن يعود لعرشه، في مقابل تسليم بعض الحصون على حدودهم مع الأراضي الإسلامية، وأن يهدموا حصونًا أخرى، وبالفعل عاد سانشو إلى الحُكم بمساعدة عبد الرحمن الناصر، وهرب أردونيو الرابع (الرديء) إلى برغش في قشتالة.
ثم توفي عبد الرحمن الناصر بعد ذلك بقليل، ونكث سانشو بوعوده التي قطعها لعبد الرحمن الناصر، فلم يهدم الحصون التي اتفقا على هدمها، كما لم يُسَلِّم المسلمين ما اتفق على تسليمه لهم من حصون أخرى، ولم يكن هذا ذكاء من سانشو؛ إذ إن أردونيو الرابع لم يزل على قيد الحياة، وسيحاول هو الآخر أن يعود إلى العرش كما حاول سانشو، فلم يكن من الصواب أن يُعادي سانشو المسلمين، بأن يتنكَّر لعهوده معهم على هذا النحو.
وبالفعل استغلَّ أردونيو هذا التطور الجديد في علاقة ليون مع المسلمين، وذهب إلى الحكم المستنصر يستنجد به، ويطلب التحالف معه؛ ليساعده على أن يعود إلى عرشه، فأحسن الحكم استقباله، ووعده بالنصرة والمساعدة، فلمَّا علم سانشو بما عزم عليه الخليفة الحكم المستنصر من مساعدة خصمه وعدوِّه، أرسل إلى الخليفة المستنصر وفدًا من أشراف ليون وأحبارها يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهَّد به لعبد الرحمن الناصر من قبل، فيهدم الحصون التي كان يجب أن يهدمها ويُسَلِّم المسلمين الحصون الأخرى.
ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، فعاد سانشو ونكث بعهوده التي كان قد قطعها على نفسه، فعزم المستنصر على تأديبه، وبدأ يستعدُّ لمواجهة ليون عسكريًّا، فخاف النصارى من أثر ذلك عليهم، وقرَّرُوا أن يتحدوا لمواجهة المسلمين، وكان الكونت فرنان كونثالث قد أعلن قبل ذلك بقليل استقلاله بقشتالة عن ليون، وكانت العداوة قائمة بينه وبين سانشو ملك ليون، ولكن خوفهم من المسلمين أرغمهم على أن يتَّحدوا معًا لمقاومة الضربة الإسلامية القادمة.
جهاد الحكم المستنصر ضد النصارى
تحالف سانشو مع فرنان كونثالث أمير قشتالة، ومع غرسية سانشيز ملك نافار، ومع كونت بَرْشُلُونَة، وتأهَّبوا جميعًا لصدِّ الهجوم الإسلامي الوشيك.
وخرج الحكم المستنصر على رأس صائفة عام (352هـ= 963م) معلنًا الجهاد، فاجتاحت الجيوش الإسلامية أراضي قشتالة ومَزَّقت جيوشها شَرَّ ممزَّق في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمت فرنان كونثالث، وسانشو على طلب الصلح، ثم اجتاحت الجيوش الإسلامية غربي مملكة نافار؛ عقابًا لملكها على نكثه بعهوده مع المسلمين وإغارته على أراضيهم، ثم توالت غارات المسلمين على أراضي قشتالة ما بين سنتي 963م، و967م.
مؤامرات داخلية في الممالك النصرانية
وقد تسببت الصراعات الداخلية على الحُكم في مملكة ليون، والصراعات الخارجية مع المسلمين وغيرهم في ضعف سلطان ليون في الداخل والخارج، فكثرت ثورات الزعماء والأشراف على سانشو، وكان من أشدِّ هؤلاء الثوار من الأشراف الكونت جوندسالفو سانشيز حاكم جِلِّيقِيَّة، وكان قد استطاع أن يُوَطِّد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على ثلاث قواعد مهمة؛ هي: لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته وجد الزعيم الثائر قد أرسل إليه يعرض عليه التسليم والدخول في طاعته، ثم دعاه إلى لقائه، فقبل سانشو وذهب إليه، فغدر به حاكم جِلِّيقِيَّة بأن دعاه إلى مأدبة طعام، وقدَّم إليه فاكهة مسمومة، فأكل منها سانشو، وسرعان ما شعر بآثار السمِّ تسري في جسده، فحُمل في الحال إلى ليون، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودُفن بها سنة (966م).
وتولَّى من بعد سانشو ابنه راميرو الثالث، وكان طفلاً في الخامسة من عمره، فتولَّت الوصاية عليه عمته الراهبة إلبيرة، ولكن ذلك لم يَرُقْ لمعظم أشراف ليون، فأبوا الاعتراف بسلطانه، ونشبت نتيجة لذلك عددٌ من الثورات المحلية، وأعلن كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وكان مَثَلُ فرنان كونثالث في الانفصال بقشتالة أقوى مشجِّع لهم على ذلك، وكانت أخطر الثورات هي ثورة جوندسالفو سانشيز قاتل سانشو؛ حيث استمرَّ على استقلاله بحكم جِلِّيقِيَّة، وحكم القواعد الثلاثة المهمة لاميجو وبازو وقُلُمْرِيَة، الواقعة فيما وراء نهر دويرة.
وفي خلال ذلك توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة عام (970م)، وخلفه على قشتالة ابنه غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار، وخلفه ابنه سانشو غرسية الثاني.
سفارة نصرانية إلى الحكم المستنصر
وقد تسبَّبت هذه الأحداث والاضطرابات الداخلية في الممالك النصرانية في أن تلتزم هذه الممالك الهدوء تجاه المسلمين حينًا من الزمن دون أن تحاول الاعتداء عليهم؛ بل اتجه الملوك والأمراء النصارى إ
- angelالمدير العام
- عدد المساهمات : 8871
نقاط : 14094
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 27/10/2011
الموقع : عمان
المزاج : إذا ضبطت نفسك متلبساً بالغيرة "على " إنسان ما فتفقد أحاسيسك جيداً فقد تكون في حالة " حب " وأنت "لا تعلم"..
رد: التاريخ الأندلسي 11
الجمعة ديسمبر 02, 2011 9:40 pm
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
- ابو ادممشرف عام
- عدد المساهمات : 5188
نقاط : 7790
التقيم : 6
تاريخ التسجيل : 26/10/2011
العمر : 45
الموقع : google
المزاج : مصدهج
رد: التاريخ الأندلسي 11
الإثنين ديسمبر 05, 2011 6:28 am
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
التاريخ الأندلسي 11
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى